عبد الوهاب بدرخان


ينصح البروفيسور روبرت بايب في كتابه quot;الموت من أجل النصرquot; بإزالة الاحتلالات كمساهمة أساسية وعملية في معالجة ظاهرة الإرهاب وإنهائها. وإذ ركز quot;بايبquot; أبحاثه في جامعة شيكاغو على درس دوافع الانتحاريين كتجسيد فعلي للتطرف في حدّه الأقصى، فإن خلاصته الرئيسية هي أن الاحتلالات الطويلة غالباً ما تتحول صانعة للتطرف. وهو يذهب أبعد، فالانتحارية لها تاريخ طويل، غرباً وشرقاً، وليست منبعثة من أية ديانة، ولكنها قد تستخدم في سياق يتنكر بالدين. وفي العديد من الحالات، في العقود الأخيرة، ينبغي النظر في السياسات العسكرية الأميركية للتعرف إلى جذور التطرف والإرهاب.

كثيرون أشاروا إلى هذا التحليل، آتيّاً من باحث أميركي معروف، على أنه جديد من نوعه، بل إنه يشكل سابقة. صحيح أنه لا يتضمن اتهاماً واضحاً لتلك السياسات، ولا يدعي محاكمتها، لكنه يلفت إلى عنصر من الضروري الاعتراف به من أجل فهم ما يجري. ذاك أن استنكار الهجمات الإرهابية وإدانتها وتأكيد لاإنسانيتها لا يعني في نهاية المطاف أنها لا تستند إلى أي منطق، أو أنها تنبع من تطرف أو عنف كامن في الجينات ولا أمل في علاجه.

من شأن أي تحليل نقدي يسلط الضوء على الأسباب غير المباشرة وغير الملموسة أن يثير الاستهجان والتساؤل، ومنذ هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة طرحت استفهامات ووُجدت لها إجابات ظلت في إطار ما قيل تكراراً من أن الإرهابيين، كونهم إسلاميين أي متسلحين بدوافع دينية، يريدون quot;تغيير نمط حياتناquot; ويكرهون quot;حضارتناquot; الغربية. قد تكون هذه الحجة صحيحة إلا أنها لا تمثل سوى جزء من الحقيقة. فمثل هذا العنف المتطرف لم يولد مع تلك الهجمات وإنما هو خلاصة عقود طويلة من التفاعل السلبي بل القهري مع quot;احتلالاتquot; بعضها مباشر ذو وجه أجنبي سافر، وبعضها الآخر غامض ومموّه. وعلى رغم الكلام الكثير ظل السؤال quot;لماذا؟quot; أقدم هؤلاء على quot;مهاجمتناquot; وquot;ماذا؟quot; فعلنا لهم وquot;كيف؟quot; تجازف مجتمعاتهم بـquot;استعدائناquot;... لاشك أنه بين رواية الرئيس الإيراني لـ11 سبتمبر والرواية الأميركية التي توصل إليها التحقيق الرسمي، ثمة حلقة ضائعة متروكة لاستغلالات شتى، وحتى للتضليل.

هنا تتخذ إشارة البروفيسور quot;بايبquot; أهميتها، فقد يكون المحققون الأميركيون توصلوا إلى استنتاج يتعلق بـquot;السياسات العسكريةquot;، أو حتى بـquot;عقيدةquot; النظام الأميركي نفسه، ولذلك استبق الإفصاح عنه لسببين: الأول عدم جواز مراجعة أي سياسات تحت وطأة أعمال إرهابية حتى لو كانت حكومات وجماعات غير إرهابية تدينها وتدعو إلى تغييرها. والثاني هو أن أي مراجعة قد تستدعي تغييرات تتناقض مع طبيعة quot;النظامquot; ومع منظومة المصالح التي بنيت عليها تلك السياسات. وهذا ما يفسر عمليّاً استحالة تعديل مقاربة الولايات المتحدة لمصالحها في الشرق الأوسط، وبالتالي استحالة زحزحة انحيازها لإسرائيل على رغم اعتراف العديد من المسؤولين سرّاً وعلناً بأن الممارسات الإسرائيلية باتت خطراً على المصالح الأميركية، بمقدار ما أنها تبعد احتمالات السلام حتى مع الإعلان بأن هذا السلام quot;مصلحة استراتيجيةquot; لأميركا.

لا شك أن الجدل الذي أثارته فكرة حرق المصاحف في سياق جدل آخر بشأن مشروع بناء مركز إسلامي قريباً من موقع quot;جراوند زيروquot;في نيويورك، كان معبراً عن وجود هاجس إسلامي في الوجدان الأميركي العام. لكن رمزيته غطّت على واقع المواجهة بين متطرفين على جانبين يتوسل كل منهما العامل الديني. صحيح أن هذا الجدل لم يخلُ من بعض الإيجابية، إلا أنه لم يحسم المواقف. صحيح أيضاً أنه جرى التذكير بشعار جورج بوش quot;لسنا في حرب مع الإسلام والمسلمينquot;، لكن حربيه في أفغانستان والعراق هما اللتان تسببتا في التداعيات الحالية.

أحد بطلي هاتين الحربين، توني بلير، أدلى أخيراً بآراء تشي بشيء من المراجعة الشخصية، ولا يُعرف ما إذا كانت صادقة أم موجهة لخدمة quot;البزنسquot; الذي يملأ انشغالاته. دعا بلير إلى quot;ثورة فكريةquot; في مجال مكافحة الإرهاب، منتقداً تقصير الجهود الغربية الذي أفسح المجال لـquot;غلبة المتطرفين الإسلاميينquot;. ومن هذا التقصير عدم الاعتراف بالاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون من جانب الغرب وتغاضيه عن الظلم الواقع على الفلسطينيين رغبة في نصرة إسرائيل. لا يتطلب الأمر quot;ثورةquot; يعرف بلير أنها مستبعدة، لكنه يتطلب بالتأكيد أن ينفض الغرب الغبار عن قيم الحرية والعدالة التي يدعي احتكارها على رغم أنه لم يعد يؤمن بها.