عبدالوهاب بدرخان


حملت الأنباء أن الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل رحبت بإعلان لجنة المتابعة العربية ترك نافذة مفتوحة أمام استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل. وليس مؤكداً أن اللجنة العربية نفسها تعتقد أنها اتخذت ما يستحق الترحيب، فكل ما فعلته أنها أعطت الجهود الأميركية مزيداً من الوقت لإقناع إسرائيل بتجميد محدود للنشاط الاستيطاني لمدة شهرين تسهيلاً لعودة الفلسطينيين الى طاولة المفاوضات.

لكن الدول العربية المعنية بالشأن الفلسطيني - باعتبار أن هناك دولاً لم تعد معنية فعلياً - تجد نفسها أمام واقع صعب ومعقد:

- فإذا نجحت واشنطن في مساعيها، فهذا يعني أن إسرائيل ستنال ثمناً باهظاً لتنازل ضئيل لن يغير شيئاً في طبيعة المعضلة التي بلغتها المفاوضات. إذ إن إسرائيل ستتكفل إضاعة الشهرين في جدالات عقيمة، لتعود المشكلة فتطرح مجدداً، وتعود هي الى جولة أخرى من الابتزاز.

- إذا صحت المعلومات من الحوافز والضمانات التي تعرض واشنطن تقديمها الى إسرائيل (أسلحة متطورة بعد توقيع اتفاق، الاعتراف بإسرائيل دولة لليهود، ضمان استمرار سيطرة الجيش الإسرائيلي على غور الأردن، منع العرب من اللجوء الى مجلس الأمن... والأهم هيكلة الأمن الإقليمي لتأمين شراكة عربية - إسرائيلية في مواجهة إيران)، فإنها لا تشكل حسماً لبعض ملفات laquo;الحل النهائيraquo; فحسب، وإنما تعمد ايضاً الى صياغة مسبقة للخيارات الأمنية للعرب من دون استشارتهم أو الالتفات الى اعتباراتهم الخاصة في ما يتعلق بإيران وأزمتها ومستقبل علاقاتهم معها.

- لعل الأصعب جاء أيضاً من الجانب الفلسطيني الذي قصد سرت (ليبيا) ليس فقط للحصول على تأييد عربي لقراره عدم التفاوض مع الاستيطان، وإنما ليقول إن المفاوضات التي راهن عليها، كما راهن العرب معه، لم تعد مجدية، ولن تتوصل الى اي نتيجة، وبالتالي لا بد من البحث عن خيارات بديلة.

لكن، ما الذي أوصل العرب الى هذا المأزق؟ فهم أسقطوا الخيار العسكري منذ أكثر من عقدين، وانخرطوا في ما سمّي laquo;عملية السلامraquo;، ومنذ الصلح المصري - الإسرائيلي، فمؤتمر مدريد وما تبعه، لم يعد هناك خيار آخر لديهم سوى التفاوض، وحتى لو استجدت عقبات ومشاكل فلن يكون البديل من التفاوض سوى التفاوض. ومع ذلك، فإنهم يواجهون واقع أن العدو الإسرائيلي كلما فاوض، ازداد طمعاً وتعنتاً وتمسكاً بالاحتلال ومكاسبه. أي أنه يراهن على تيئيس العرب ليدفعوا بالفلسطينيين الى قبول أي تسوية حتى لو لم تكن عادلة أو مقبولة أو مؤهلة للاستمرار.

ذهب الفلسطينيون الى التسوية، فاوضوا سراً وعلناً، حصّلوا ما استطاعوا تحصيله، ثم وقفوا أمام الحائط المسدود، لا تزال الأرض تسرق من بين أيديهم، والإسرائيليون يلوحون بـ laquo;التنازلاتraquo; باليمنى ويستعيدونها باليسرى... تخلصوا من غزة وأبقوها تحت مخالبهم، قسّموا الفلسطينيين جغرافياً، فأكملوا هم بالانقسام سياسياً وباتوا مختلفين على كل شيء، من الأمن الى الانتخابات الى شرعية منظمة التحرير، بعضهم يقتل بعضاً ويسجن وينكّل، دخلوا هم أيضاً في صراع وجود يغلّف صراعات على النفوذ والسلطة، وعلى المقاومة والمفاوضة.

بعد ما يقرب من عشرين عاماً يعود الفلسطينيون الى العرب ليقولوا ان المفاوضات لم تحقق شيئاً، ولم تعد مجدية، ولا بد من إعادة النظر في صيغتها، في تفاصيلها وآلياتها ومرجعياتها ليكون هناك laquo;دور أكبر للمجتمع الدولي والقانون الدولي والأمم المتحدة والهيئات الدولية ومنها مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان والمحكمة الدوليةraquo;. وإذا كان محمود عباس بات مقتنعاً بضرورة البحث عن بدائل، فهذه إشارة واضحة الى أنه يئس من المفاوضات.

كان مشهد الهروب العربي أمام الفلسطينيين في سرت صاعقاً وممضاً. هناك من تساءل ماذا نفعل هنا، فالمفاوضات شأن فلسطيني ولا داعي لأن يقحموا الآخرين به. وهناك من كان صريحاً فقال إن المراهنة على أن نقلب الطاولة ضرب من الوهم. وهناك أخيراً من كرر للفلسطينيين نحن معكم ولكن... لا أحد يريد تفشيل الأميركيين، على رغم أن نجاحهم يعني أن إسرائيل ستكسب ولن تعطي شيئاً. كان الجميع مقتنعاً بأن الخيار المنطقي هو إعلان وقف المفاوضات، لكن هذا ما تمناه الثنائي نتانياهو - ليبرمان لأنه يبعد الضغوط ويفسح المجال لاستكمال أجندة التهويد والاستيطان. ففي غمرة البحث عن قرار عربي مرّ قانون العنصرية الذي لم يعد يعترف بأي laquo;مواطن إسرائيليraquo; إلا ذاك الذي يقسم يمين الولاء. وعلى قاعدة هذا القانون سيفرض الاعتراف بـ laquo;إسرائيل دولة لليهودraquo;.

الأكثر صعوبة من استقبال الفلسطينيين العائدين من تيه المفاوضات، كان البحث عن بدائل، إذ وضع العرب وجهاً لوجه أمام حقيقة أنهم بلا بدائل، أو بالأحرى بلا استراتيجية. فهم أسقطوا خيار الحرب مجاناً وبلا مقابل، وذهبوا الى المفاوضات بلا خطة. استحال ذهابهم إليها مجتمعين وظهر الآن أن ثمن ذهابهم إليها فرادى كان باهظاً جداً. صحيح أنهم يعلنون هدفاً واحداً هو استعادة الأرض المغتصبة، لكن شعارهم الأثير laquo;ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوةraquo; لا ينفك يبدو صحيحاً كلما أمعنوا في العجز عن تحقيقه. لعلهم أدركوا الآن أنهم لم يخفقوا فقط في إدارة حروبهم laquo;لتحرير الأرضraquo; وإنما أخفقوا أكثر في إدارة معركة التفاوض، بل انقسموا فيها وحولها قبل أن ينقسم الفلسطينيون. أكثر من ذلك، لم يعد الملف عندهم، بل انتقل الى إيران التي برهنت لهم أن معاودة الخيار العسكري ممكنة، طالما أن الولايات المتحدة نفسها تعجز عن ضبط إسرائيل ولا تأتي لمعسكر الاعتدال العربي إلا بخيبات الأمل والإحباطات.

يعرف الفلسطينيون أن laquo;اللاإستراتيجيةraquo; العربية تستند أولاً وأخيراً الى تفويض الولايات المتحدة والاعتماد عليها laquo;لاسترجاع الأرضraquo;، ولذلك طرحوا بدائل أبرزها ثلاثة: laquo;الحصول على اعتراف الإدارة الأميركية بدولة فلسطينية في حدود العام 1967، أو اللجوء الى مجلس الأمن للهدف نفسه أو الى الجمعية العامة لوضع الأراضي الفلسطينية تحت الوصاية الدوليةraquo;. والأكيد أن واشنطن سترفض ما ترفضه، بالفيتو أو بغيره، وستعرقل ما تعرقله، لأنها لا تقبل أي حل يفرض على إسرائيل، حتى لو كانت لديها مآخذ أساسية على الأداء التفاوضي الإسرائيلي. قد تخطو أوروبا بعض الخطوات مواكبة لـ laquo;البدائل العربيةraquo;، إذا اعتمدت، لكنها ستتراجع تدريجاً للتكيّف مع الموقف الأميركي - الإسرائيلي.

لعل أبرز وأخطر ما أظهرته الأزمة الراهنة للمفاوضات أنه لم يعد متاحاً إعادة القضية الفلسطينية الى موقعها laquo;المركزيraquo; بالمفهوم والطريقة السابقين. ومع أن العرب أدركوا الأخطاء التي ارتكبوها بالتخلي عن هذه القضية لمجرى المفاوضات، وبعدم وجود رعاية فاعلة ودائمة لهذه المفاوضات، إلا أنهم فقدوا عملياً إمكان تصحيح هذه الأخطاء، وأكبرها على الإطلاق الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة التي لم تخف يوماً أن أولويتها في المنطقة هي إسرائيل وما تريده لأمنها حتى لو تناقض مع أبسط متطلبات السلام.