صحيفة الوطن

لا تستطيع اليوم وبفضل ثقافة التقديس الأعمى لعلماء الدين أن تبدي‮ ‬وجهة نظرك في‮ ‬أي‮ ‬شيء‮ ‬يتعلق بالإنسان والحياة‮.‬

إن التقديس‮ ''‬الأبله‮'' ‬أعطى العلماء مساحة تفوق المعقول،‮ ‬حتى وصل بنا الأمر أن نصمت على الأخطاء العلمائية مخافة الوقوع في‮ ‬المعصية،‮ ‬كما أنتج هذا الفكر في‮ ‬المقابل قطعانا من البشر لا تملك القدرة على التفكير،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن الاختيار الحر‮.‬

من جهتهم‮ ''‬أي‮ ‬العلماء‮'' ‬يعتبرون التقديس فرصة مناسبة لانتفاخ ذواتهم ومحطة جيدة للصعود على العقول المعطلة لملايين المسلمين،‮ ‬حتى وجدنا بعض علماء الدين المغمورين والفاشلين في‮ ‬حياتهم العملية والعلمية‮ ‬يستغلون هذا المفهوم للوصول إلى أهدافهم الرخيصة،‮ ‬ولمعرفتهم سلفاً‮ ‬أن هنالك مناصرين لهم ذوو ذهنيات إسمنتية‮ ‬يدافعون عن قداستهم ويشكلون حائط صد لكل منتقد لهم‮.‬

الواجب أن نحترم العلماء‮ ''‬طبعاً‮ ‬ليس كل من لبس زيهم‮''‬،‮ ‬لا أن نقدسهم،‮ ‬فالاحترام للعالم الواعي‮ ‬والمدرك والمثقف والفاحص لدورات الزمن ومراحل الحياة،‮ ‬هذا هو المطلوب،‮ ‬أما أن نقدسهم فقط لكونهم‮ ‬يرتدون الزي‮ ‬العلمائي‮ ‬فهذا‮ ''‬الجهل الخطير‮''.‬

إن أهم ما‮ ‬يمنع وصول كثير من المعارف الإنسانية والإنجازات الحضارية للمسلمين هو في‮ ‬وجود‮ ''‬أشباه علماء‮'' ‬من الذين‮ ‬يصرون على أن تبقى الأمة الإسلامية حبيسة التاريخ والماضي،‮ ‬ويمنعون بتطرفهم كل انفتاح من شأنه إثراء الواقع الإسلامي،‮ ‬فهم علماء الكهوف والجمود،‮ ‬علماء اللحظة ومنتجو الخرافات وصنَّاع البطولات السياسية المزيفة‮.‬

ليس العتب على هؤلاء العلماء بقدر عتبنا على من‮ ‬يسعى لصنعهم بهذا الشكل المسيء،‮ ‬مشكلتنا أننا قد‮ ''‬ابتلشنا‮'' ‬بعالم جاهل‮ ‬يقدسه مسلم مغفل،‮ ‬وبهذه التركيبة‮ ''‬العبيطة‮'' ‬ينتج واقعنا الإسلامي‮ ‬حراساً‮ ‬للعقيدة والدين والناس لا‮ ‬يقبلون من تطوير أدواتهم المعرفية،‮ ‬أو حتى من تحسين صورتهم أمام العالم‮.‬

علماء الدين هم بشر مثلنا؛ قد‮ ‬يخطئون ويكذبون ويسقطون ويغفلون ويفسدون،‮ ‬فعالم الدين هو شخص عادي‮ ‬تماماً،‮ ‬وكما قال السيد فضل الله‮: ''‬عالم الدين أساساً‮ ‬لا‮ ‬يختلف عن الناس الآخرين،‮ ‬فلا هو نبي‮ ‬ولا هو وصي،‮ ‬هو إنسان‮ ‬يملك ثقافة الفقه،‮ ‬مثل المهندس الذي‮ ‬يملك ثقافة الهندسة،‮ ‬والطبيب الذي‮ ‬يملك ثقافة الطب،‮ ‬كذلك فالمفروض أن‮ ‬يملك العالم الديني‮ ‬ثقافة الفقه والأصول أو ثقافة الإسلام بشكل عام،‮ ‬لذلك ليس من الطبيعي‮ ‬أن نحترم إنساناً‮ ‬أو نتبعه لمجرد شكله‮''.‬

لماذا‮ ‬يسمح عالم الدين لنفسه أن‮ ‬يقبل كل المسوحات المقدسة المسبوغة على شخصه العادي‮ ‬جداً؟ وكيف‮ ‬يتقبل أن‮ ‬يكون ظل الله في‮ ‬الأرض،‮ ‬فقط كي‮ ‬لا‮ ‬ينتقده الآخرون؟ لماذا لا‮ ‬يتواضع في‮ ‬وجوده كما‮ ‬يتواضع المهندس والطبيب والمخترع والقيادي‮ ‬والسياسي‮ ‬المخضرم والأديب،‮ ‬وكل من أعطوا الكثير من جهدهم وجهادهم للبشرية؟ ولهذا قال عنهم محطم القداسات الراحل السيد فضل الله‮ ''‬إن العلماء ورجال الدين من مسلمين ومسيحيين أو‮ ‬غيرهم،‮ ‬ليسوا ظل الله على الأرض حتى نسقط عليهم صفات،‮ ‬ونمنحهم القداسة التي‮ ‬لا‮ ‬يستحقونها،‮ ‬ونتعاطى معهم كآلهة،‮ ‬ونخضع لهم خضوع العبد لسيده ونطيعهم طاعة عمياء ونمنحهم الألقاب الفضفاضة الكبيرة‮''.‬

فلنعطي‮ ‬كل العلماء،‮ ‬بل وكل البشر،‮ ‬حجمهم الطبيعي‮ ‬ونتعامل معهم من منطلق الاحترام المعتدل،‮ ‬وأن لا نحولهم إلى ملائكة معصومون عن الزلل،‮ ‬لأننا لو فعلنا ذلك فسوف‮ ''‬نورطهم‮'' ‬وسنضعهم إما في‮ ‬صفاف المعصومين‮ -‬وهم ليسوا كذلك‮-‬،‮ ‬وإما في‮ ‬صفاف المهرجين‮ -‬وهذا ليس مقبولا أيضا‮-.‬

مهما كانت سعة علم عالم الدين لا‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نسقط أمام علمه وهيبته،‮ ‬بل عليكم أن تتركوا لنا مساحة‮ ‬غير مقدسة نتجول في‮ ‬فكره وآرائه،‮ ‬فقد نتفق معه في‮ ‬أشياء وقد نختلف معه في‮ ‬أشياء أخرى،‮ ‬خصوصاً‮ ‬فيما‮ ‬يتعلق بالشأن العام والحياة اليومية على أقل تقدير،‮ ‬لا أن تغلقوا كل المنافذ بيننا وبينه بحجة الهالات المقدسة التي‮ ‬يمتلكها علماء الدين أو أي‮ ‬شخص‮ ‬يملك علماً‮ ‬ومعرفة مضافة‮.‬

يقول السيد فضل الله‮ ''‬إن علينا ألا نعيش عقدة الانبهار بالآخر أو الانسحاق أمامه،‮ ‬بصرف النظر عن الموقع الذي‮ ‬يملأه هذا الآخر،‮ ‬وألا نخضع لكل ما‮ ‬يقوله على أساس أنه الحق،‮ ‬حتى وإن كان هذا الشخص‮ ‬يمثل موقعاً‮ ‬علمياً‮ ‬أو سياسياً‮ ‬أو حتى قضائياً‮ ‬أو ما إلى ذلك،‮ ‬خصوصاً‮ ‬أننا في‮ ‬كثير من تجاربنا الماضية كنا الضحايا لهذه الثقة المفرطة بالآخرين،‮ ‬الذين انطلقوا من حساباتهم الذاتية أو السياسية لتكون قضايانا ضحية هذه الحسابات وهذه المخططات‮).. ‬فهل وصلت الرسالة أم ما زلتم تكابرون أنهم مقدسون وسواهم مدنسون؟‮.‬