محمد السماك

يمر المسيحيون في الشرق بحالة قلق، فعددهم في تراجع ودورهم في انحسار. ويشكل استمرار هذه الظاهرة كارثة وطنية بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وعندما تقع الكارثة فإنها لا تستثني أيّاً من دول الشرق. والقيادات الرسمية في هذه الدول تعرف أن هذه الحالة تعني خسارة أدمغة وعقول وسواعد منتجة، وأن معنى ذلك استنزاف المجتمعات المشرقية من كفاءات وقدرات وإمكانات علمية هي بأمسّ الحاجة إليها. وتعرف هذه القيادات الرسمية أيضاً أن فقدان التنوع الذي تميزت به المجتمعات الشرقية من جراء الهجرة المسيحية يعني:

أولاً: إعادة صياغة هذه المجتمعات على قاعدة اللون الواحد، الأمر الذي يؤدي الى استقواء التطرف من حيث هو رفض للآخر وإلغاء له.

ثانياً: انتعاش ثقافة الانغلاق على حساب ثقافة الانفتاح.

ويقدم هذا الأمران رسالة مزدوجة ألى العالم مفادها:

أ - أن الشرق يضيق ببعض أهله. وأنه يختنق بالتنوع والتعدد. وأن من مظاهر ذلك خنق حرية التعبير الديني. وبكلام أكثر وضوحاً تعني هذه الرسالة أن الإسلام يضيق بالمسيحية في الشرق بعد حوالي 1400 عام من التعايش المشترك الذي تجسد في حضارة إنسانية مزدهرة. وعلى رغم أن هذا التعايش مرّ بفترات صعود وهبوط، لكنه لم يغبْ ولم يُغيّب يوماً.

ب- أما الرسالة الثانية فإن مضمونها يوحي بأن المسلمين في الغرب قد يحملون معهم هذه الثقافة بمضمونها الرافض للآخر مما يعني أنهم غير قابلين للتكيُّف مع مجتمعاتهم الجديدة والاندماج فيها، ذلك أن هذا الرفض يشكل قنبلة اجتماعية موقوتة. ومن شأن هذه الرسالة أن تصب المزيد من الزيت على نار ظاهرة الإسلاموفوبيا المشتعلة أصلاً، والتي تستمد قوتها التدميرية من الجهل والكراهية من جهة أولى، ومن سوء رد فعل بعض المتطرفين المسلمين من جهة ثانية. ولذا فإن عدم الفصل في الثقافة الإسلامية العامة بين الغرب والمسيحية يجعل من كل مشكلة إسلامية -غربية، مشكلة إسلامية -مسيحية شرقية، ويجعل بالتالي من مسيحيي الشرق هدفاً في متناول اليد لردود فعل على بعض مواقف أو على بعض تصرفات الغرب، على النحو الذي عرفه العراق مؤخراً. وبذلك يكون مسيحيو الشرق ضحية الفعل الغربي اللامسيحي، وضحية ردّ الفعل الشرقي اللاإسلامي، مما يضاعف من معاناتهم ومن تزايد قلقهم على المستقبل والمصير.

وتعرف القيادات الرسمية كذلك أن شعوب العالم المتعددة والمختلفة، بكل عقائدها وثقافاتها ولغاتها وألوانها، قد تداخلت معايشها وتشابكت مصالحها؛ وأن الحدود القائمة بينها أصبحت بفضل الإعلام التقني- الإلكتروني الحديث حدوداً وهمية. وهي تعرف كذلك، فيما يتعلق بالمسلمين والمسيحيين تحديداً، أن ثلثي المسيحيين اليوم يعيشون في دول آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وأن ذلك يعني أن المسيحية لم تعد دين الرجل الأبيض. ولا دين المستعمر. ولا دين الشعوب الغنية. ولكنها دين الفقراء والملونين والمستعمَرين والمظلومين كذلك. وأنها لم تعد دين أوروبا وأميركا، ولكنها دين شعوب تتعايش مع الشعوب الإسلامية جنباً إلى جنب من أندونيسيا وحتى نيجيريا. كما تعرف أن أكثر من ربع المسلمين الذين يبلغ عددهم ملياراً ونصف المليار إنسان تقريباً يعيشون في دول وفي مجتمعات غير إسلامية تمتد من أميركا الشمالية وحتى أستراليا مروراً بأوروبا والصين والهند.

وتفرض هذه المتغيرات الجذرية حالة من اثنتين: إما الصدام على قاعدة رفض الآخر وعدم الثقة به. وإما العيش المشترك على قاعدة المحبة واحترام الاختلاف.

ويستطيع الشرق العربي أن يقدم نموذجاً ناجحاً لصيغة العيش المشترك المنشود على قاعدة أن رسالتي المسيحية والإسلام أشعتا من هذا الشرق. وأن المسيحيين والمسلمين هم أبناء هذا الشرق تربطهم الحضارة الواحدة والثقافة الواحدة واللغة الواحدة وحتى الأصول العرقية والعائلية الواحدة، إضافة إلى الأوطان الواحدة التي ناضلوا معاً من أجل قيامها ومن أجل المحافظة على سيادتها وحريتها. ويفترض ألا تؤثر المتغيرات العددية في جوهر هذا الواقع.

ولكن هذا الافتراض يكاد لا يبدو صحيحاً دائماً. وهنا مصدر الخطر الذي يتحتم على القيادات الرسمية أن تتنبه له وأن توليه عنايتها.

وتشهد بعض دول الشرق صعوداً في حركات التطرف والغلو. بعض القيادات الرسمية تحاول احتواء هذه الحركات. ولكن الوقائع أثبتت أن هذا الإهمال لم يؤد إلا إلى تشجيع التطرف، وتاليّاً إلى المزيد من الغلو. كما أثبتت الوقائع أنه مع الوقت، تتضخم الفاتورة، وتتضخم معها معاناة المسيحيين حتى تصل بهم الأمور إلى الغضب اليائس الذي يعبر عن ذاته بإحدى السلبيتين أو بكلتيهما معاً: الهجرة أو العزلة.

والبعض الآخر من القيادات الرسمية يتصدى لحركات التطرف والغلو من الأساس، ويذهب في صراعه معها إلى حد عزلها وإقصائها، وفي الوقت ذاته ينفتح على القوى الوطنية المسيحية ويتعاون معها. وهنا أثبتت الوقائع أيضاً أن هذه المفاضلة أدّت إلى تعميق الهوة بين حركات التطرف والمواطنين المسيحيين، إذ صوّرت هؤلاء المواطنين، الوطنيين، وكأنهم حلفاء لخصمها في السلطة شرعةً ومنهاجاً؛ مما يعطي لهذه الخصومة بعداً دينيّاً وليس سياسيّاً فقط.

وعندما تسوي القيادات الرسمية خلافاتها مع حركات التطرف (كما حدث في عهد السادات مثلاً)، تجد القيادات الوطنية المسيحية نفسها خارج مظلة السلطة ومكشوفة أكثر أمام رد فعل التطرف.

ولأن القيادات الرسمية غالباً ما تكون متحالفة أو متعاونة مع الغرب (الولايات المتحدة والدول الأوروبية) فإن الاعتقاد الخاطئ بأن الغرب هو المسيحية، يصور تعاون مسيحيي الشرق مع القيادات الرسمية الوطنية وكأنه امتثال لتوجيهات هذا الغرب والتزام بسياسته، مما يعزز بالتالي اعتبارها مسيحيي الشرق والغرب طرفاً واحداً.

وفي ضوء هذا التوصيف للواقع من المهم التأكيد على ضرورة وأهمية ما يأتي:

أولاً: فك الارتباط بين الدور الوطني الطبيعي لمسيحيي الشرق وبين الصراع على السلطة الذي ينشب بين القيادات الرسمية وحركات التطرف والغلو الديني.

ثانيّاً: تأصيل وتعميم المبادئ الأساسية في الثقافة العامة بتوضيح أنه لا الغرب يمثل المسيحية ولا مسيحيو الشرق امتداد للغرب.

ثالثاً: التأكيد على أن لا الهجرة المسيحية من الشرق ولا التقوقع المسيحي على الذات، يحل المشاكل التي يعاني منها المسيحيون في الشرق، بل إن ذلك يزيدها تعقيداً.

رابعاً: توعية الرأي العام في المجتمعات الإسلامية بما في ذلك حركات التطرف والغلو بأن الهجرة المسيحية من الشرق ليست خسارة للمسيحيين وحدهم ولا حتى للمجتمعات الشرقية وحدها، ولكنها، إضافة إلى ذلك، تقدم في جوهرها شهادة سلبية مشوّهة وسيئة عن حقيقة الإسلام وعن صيغة التعايش الإسلامي- المسيحي، يدفع ثمنها المسلمون المنتشرون في العالم.

خامساً: تعميم ثقافة المواطنة الواحدة، بمعنى المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وعدم ربط هذه الحقوق بدين معين أو بمذهب محدد. إن المسؤولية العامة والأساس للقيادات الرسمية تقوم، أو يجب أن تقوم، على القاعدة المبدئية التالية، وهي أن معاناة مسيحيي الشرق هي معاناة لمسلمي الشرق، ولمسلمي العالم. وإن مسؤولية التصدي لهذه المعاناة هي مسؤولية إسلامية بقدر ما هي مسؤولية مسيحية.

فالشرق عندما يفقد تلويناته الدينية والمذهبية والعنصرية، يفقد خصائصه ومميزاته التي هي مصدر جماله وجاذبيته. وتتحول صورته من سجادة زاهية الألوان، بديعة التنسيق، متداخلة الأشكال.. إلى مجرد قطعة من quot;الموكيتquot; الباهت.

يستطيع مسيحيو الشرق أن يعيشوا في مجتمعات غير شرقية. ويستطيع مسلمو الشرق أن يعيشوا بمعزل عن المسيحيين. ولكن الشرق لن يبقى شرقاً. إنه يفقد بذلك هويته ودوره ورسالته.

لقد حافظ الشرق طوال الـ 1500 عام الماضية على هذه الهوية، وتباهى بأداء هذا الدور وتغنّى بحمل هذه الرسالة، على رغم كل المحن والويلات التي حلّت به، وهو اليوم مدعو مرة جديدة ليؤكد ذاته وأصالته، فقد أثبتت كل تلك التجارب أن الشرق يكون بمسلميه وبمسيحييه. وإلا فإنه يكون شيئاً آخر. أيّ شيء آخر.