وحيد عبد المجيد

قدم مسلسل quot;الجماعةquot;، الذي يثير جدلاً مستمراً منذ عُرض في قنوات تليفزيونية عربية عدة خلال شهر رمضان الماضي، رؤية لتاريخ quot;الإخوان المسلمينquot; وحاضرهم، وفقاً للصورة التي يراها صانعوه. فالدراما التاريخية لا تعيد كتابة التاريخ، وإلا كانت إلى الفيلم التسجيلي أقرب، بل تقدم رؤية لأحداث أو شخصيات أو مواقف وأفكار.

لذلك كان طبيعياً أن يثير مسلسل quot;الجماعةquot; جدلاً واسعاً طغى فيه، وما زال، الخلاف بين أنصار quot;الإخوان المسلمينquot; الذين يهاجمون هذا المسلسل وخصومهم الذين يدافعون عنه. غير أن هذا الاستقطاب الحاد يحجب نقاشاً قد يكون أكثر أهمية بشأن مدى سلامة الرؤية التي يقدمها المسلسل. فثمة خلافات لا تدور حول الموقف الكلي تجاه المسلسل تأييداً أو رفضاً، بل تتعلق ببعض الأفكار التي يصدر عنها والرسائل التي يوجهها. وأكثر هذه الخلافات يحدث بين بعض من يجدون في مسلسل quot;الجماعةquot; إيجابيات وسلبيات في آن معاً. ولعل أهم القضايا التي كان مفترضاً أن يحظى الجدل حولها باهتمام أوسع مما لقيه فعلاً هي قضية موقف quot;الإخوانquot; تجاه العنف وموقعه في فكرهم وممارساتهم.

فقد تبنى صانعو المسلسل الرؤية القائلة إن العنف هو جزء لا يتجزأ من تكوين جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; منذ تأسيسها، وأصلاً من أصول فكرتها. فالرسالة الرئيسية التي سعى المسلسل إلى تأكيدها هي أن العنف يمثل خطاً مستمراً في الجماعة منذ فرق الجوَّالة وحتى العرض الرياضي القتالي (العسكري) الذي قام به طلابها في جامعة الأزهر في ديسمبر 2006. وهذا هو الخط الدرامي الأساسي في المسلسل الذي بدأ صانعوه حلقته الأولى بإلقاء ضوء كثيف على ذلك العرض وملابساته، ثم عادوا إلى التاريخ سعياً إلى تأكيد أنه لم يكن إلا امتداداً للعنف الذي بدأت إرهاصاته مبكرة جداً بتكوين فرق الجوّالة، ثم تأسيس quot;النظام الخاصquot; المسلح الذي توسع في هذا العنف تفجيراً واغتيالاً.

وإذا صحت هذه الرؤية، فهي تعني ضرورة إخراج quot;الإخوان المسلمينquot; من دائرة أي عمل سياسي أو اجتماعي مدني، وتفرض التعاطي معهم باعتبارهم خطراً ينبغي مواجهته وليس بوصفهم تياراً يمكن الحوار معه. لذلك يختلف كثير من خصوم quot;الإخوانquot; سياسياً وفكرياً مع هذه الرؤية التي يتبناها مسلسل quot;الجماعةquot;، ليس لأنها ترهن المستقبل لمواجهة حاسمة ضدهم فقط، بل لأنها تفتقر إلى دليل كاف، إن في التاريخ أو في الحاضر.

ولا يعني ذلك أن الفكرة التي قامت عليها جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; كانت نقية من العنف بمعناه العام الواسع. فالعنف بهذا المعنى، الذي يدور حول السعي إلى بناء القوة الذاتية، لصيق بالحركات السياسية والاجتماعية والدينية التي تؤمن بأهمية هذه القوة التي لا تقتصر على العمل المسلح، سواء شملته أو لم تشمله.

وينطبق ذلك على جماعة quot;الإخوانquot; التي يجوز النظر إلى عنفها، من هذا المدخل، باعتباره عنفاً طارئاً أي يطرأ في ظرف موضوعي معين وينتهي بانتهائه، وقد يتجدد في ظرف آخر، لكنه ليس عنفاً أصيلاً أو متجذراً في تكوينها وبنيتها. فهو، إذن، عنف عابر وليس مقيماً.

كان مؤسس quot;الجماعةquot; حسن البنا مهتماً بالقوة حريصاً عليها منذ أن بدأ يفكر فيما اعتبره جهاداً واجباً لإحياء السلوك الديني في المجتمع المصري. ويعني ذلك أن مفهومه للجهاد لم يرتبط، منذ البداية، بالعنف أو القتال. فقد تبنى مفهوماً واسعاً للجهاد يختلف عن ذلك الذي تتبناه الجماعات التي تحصره في العمل المسلح، مثل quot;الجهادquot; وquot;القاعدةquot; وغيرهما.

غير أن صانعي quot;المسلسلquot; ينتمون إلى مدرسة في الفكر تربط ما تراه عنفاً أصيلاً في تكوين جماعة quot;الإخوانquot; بمفهوم الجهاد. ولو أن هذه المدرسة على صواب، لما بقيت حركة إسلامية واحدة بمنأى عن العنف.

وتعود أصول هذه المدرسة إلى البروفسور ريتشارد ميتشيل أحد أول من درسوا جماعة quot;الإخوانquot; تفصيلاً في ستينيات القرن الماضي، وكتب كتاباً تُرجم إلى العربية في مطلع السبعينيات وما زال من أهم المصادر المعتمدة في دراسة تاريخ هذه الجماعة.

والحق أن مفهوم quot;الإخوانquot;، أو بالأحرى بعض قادتهم، للقوة لم يتركز في العنف إلا عندما أُنشئ quot;النظام الخاصquot; كجهاز عسكري سري في داخل الجماعة عام 1940. وكان الهدف من إقامته مواجهة الاحتلال البريطاني في مصر والتوسع الصهيوني في فلسطين، لكنه لم يلبث أن تحول صوب تصفية خصوم الجماعة السياسيين. وكانت هذه مرحلة عابرة في تاريخ الجماعة، بدليل أن البنا الذي أنشأ quot;النظام الخاصquot; أدرك خطره عندما أفلت زمامه، وأن خلفه المرشد الثاني حسن الهضيبي سعى إلى إلغائه بل أصدر قراراً بهذا المعنى، لكن لم يقدر على تنفيذه.

وليس هناك ما يدل على وجود صلة عضوية بين quot;النظام الخاصquot; وأي من أقسام الجماعة بما في ذلك فرق الجوَّالة التي أُنشئت قبيل المؤتمر العام الثالث للجماعة عام 1935، وفرق الرحلات التي كانت موجودة منذ تأسيس هذه الجماعة عام 1928.

ولم تكن هذه الصلة ممكنة من حيث الأصل، لأن جوَّالة quot;الإخوانquot; كانت منفتحة على الحركة الكشفية الوطنية قبل أن تلتحق بها رسمياً في بداية الأربعينيات وتصبح أقوى فرقها وأكثرها عدداً. وليس هناك ما يبرر الاعتقاد في أن quot;الإخوانquot; كانوا قادرين طول الوقت على خداع الدولة التي سمحت لهم بالانضمام إلى الحركة الكشفية التابعة لها، سواء الدولة الملكية المحافظة أو الجمهورية الثورية. فعندما قرر مجلس قيادة الثورة إعادة تنظيم حركة الكشافة الوطنية عام 1953، عُين عبد الغني عابدين رئيس جوَّالة quot;الإخوانquot; سكرتيراً عاماً لهذه الحركة.

فالمثبت تاريخياً أن النشاط الرئيسي لجوَّالة quot;الإخوانquot; كان في ميادين الخدمة العامة التي أعطتها الجماعة أهمية قصوى منذ البداية. فكانت هي أداة الجماعة في الأعمال الخيرية والخدمات الصحية.

كما أن الجوَّالة هي جزء لا يتجزأ من بنية جماعة quot;الإخوانquot; وقسم من أقسامها، بخلاف الجهاز السري الذي أنشئ للقيام بمهمة طرأت في ظرف معين. ويبدو أن من يتحدثون عن جناح مسلح في الجماعة في مصر الآن إنما يخلطون مرة أخرى بينه وبين فرق الجوَّالة التي لم تلحق بها شبهة عنف مسلح في أي وقت.

والأرجح أنه يوجد ما يشبه فرق الجَّوالة في جماعة quot;الإخوانquot; الآن. فالمستوى الذي خرج به العرض الذي حدث في جامعة الأزهر في ديسمبر 2006 لا يمكن تصوره بدون تدريب رياضي منظَّم ومستمر. وهذا هو دور فرق الجوالة الذي يعتبر الطلاب عمادها الأساسي. ورغم أن المسافة ليست قصيرة بين عرض من هذا النوع مهما كان عنيفاً والعرض العسكري، يظل ضرورياً تنبيه قيادة الجماعة مرة أخرى إلى أن الإصلاح في مصر وبلاد عربية أخرى ينشط فيها تيار quot;الإخوانquot;، يحتاج إلى عقول الشباب وليس إلى عضلاتهم، ويتطلب الارتقاء بالعمل السلمي وليس الانزلاق في هاوية العمل العنيف.