محمد سيد رصاص

هناك تشابهات في المسار بين جنوب السودان وشمال العراق:تمرد جنوبي مسلح أول (آب1955- آذار1972) فصلت اتفاقية أديس أبابا للحكم الذاتي للجنوبيين بينه وبين التمرد الثاني(أيار1983- كانون ثاني2005) الذي انتهى باتفاقية نيفاشا بين العقيد جون غارانغ والرئيس عمر البشير، فيما عاش العراق على تمرد مسلح كردي بقيادة الملا مصطفى البرزاني(11أيلول1961-11آذار1970)كان (اتفاق11آذار للحكم الذاتي) فاصلاً قصيراً يفصله عن التمرد الثاني في آذار1974الذي أنهته اتفاقية الجزائر في يوم6آذار1975بين صدام حسين وشاه إيران قبل أن يعود حزب مسعود البرزاني (ومعه جلال الطالباني الذي شكَل حزبه بعد اتفاقية الجزائر) لاستئناف القتال ضد حكومة بغداد المنشغلة بحربها مع إيران منذ22 أيلول1980. هناك أيضاً تشابهات في التحالفات بينهما: دولياً مع السوفيات عند الملا البرزاني بين عامي1946و1964ثم مع شاه إيران بين 1969و1975 وعلاقات بين الملا البرزاني وإسرائيل بين عامي1963و1975حسب كتاب اليهودي الأميركي شلومو نكديمون:quot;الموساد في العراقquot;،قبل أن ينتقل ابنه مسعود، والطالباني، إلى علاقات وثيقة مع واشنطن منذ حرب1991 الأميركية ضد العراق لم يقطعها سوى استعانة مسعود بصدام حسين في يوم31آب1996لإستعادة سيطرته على مدينة أربيل بعد سقوطها بيد قوات حزب الطالباني، فيما كان غارانغ حليفاً أساسياً للسوفيات (وفي الوقت نفسه كان مدعوماً من إسرائيل ومن مجلس الكنائس العالمي ) منذ عام1983قبل أن ينتقل للتحالف مع واشنطن إثر انتهاء الحرب الباردة التي تزامنت مع وصول الإسلاميين للسلطة في الخرطوم بيوم30حزيران1989وهو ما تزامن أيضاً مع انتهاء التحالف بين الأمريكان والحركة الإسلامية العالمية بعد هزيمة السوفيات. أيضاً هناك تشابهات عندهما:استعانة بالجوار الإقليمي المعادي للحاكم المحلي، واستقواء (في حالة الضعف) أو تجيير لقوى المعارضة المحلية الأخرى لصالح الأجندات الخاصة في جوبا وأربيل.
هنا، أوحت فترة 2003(سقوط نظام صدام حسين)، واتفاقية نيفاشا في السودان بعام2005، بأن هناك مساراً واحداً، تحت رعاية واشنطن، لكل من أربيل وجوبا، بعد أن شارك الجنوبيون في سلطة الخرطوم إثر تلك الاتفاقية، فيما أصبح الأكراد جزءاً رئيسياً من التركيبة السلطوية التي أقامها الأمير كان في بغداد،مع وجود منطقتين كبيرتين في شمال العراق وجنوب السودان هما بالترافق مع ذلك في حالةquot;شبه دولةquot; بمعزل عن العاصمتين. وقد اعتقد الكثيرون منذ ذلك الحين بأن quot;الخرائط الجديدةquot;ستحكم بمفاعيلها كلاً من البلدين.
رغم طرح جوبايدن لمشروعهquot;حول تحويل العراق إلى دولة كونفدرالية لمناطق ثلاثquot;عندما كان سيناتوراً في أيلول2007،إلا أن الأمور قد قادت إلى تسقيف توقعات أكراد العراق: كان دخول واشنطن في حالة التعثر في العراق،وبعموم منطقة الشرق الأوسط، مؤدياً منذ عام2007إلى تقوية أدوار دول إقليمية معادية للأمير كان (إيران) أو ممانعة لهم (سوريا) أو صديقة لواشنطن(تركية)، تجتمع ثلاثتها على العداء لفكرة الدولة الكردية (التي تعني تقسيم أراضي الدول الثلاث) أو لا ترى مصلحة في أن يقوى أكراد العراق إلى حدود تضر بمصالحها.هذا يجعل عملياً مصير quot;إقليم كردستان العراقquot;في وضع ليس بعيداً عن ما كانت عليه جمهورية مهاباد الإيرانية الكردية بمنتصف الأربعينيات قبيل سقوطها لما تخلى ستالين عنها بعد قيامها على يديه وذلك بعد أن قايض اعترافه بوحدة الأراضي الإيرانية (والتركية) مقابل قبول الأميركيين والأوروبيين بالأمر الواقع الذي فرضه ستالين في أوروبة الشرقية والوسطى. فالأمر متعلق بمعادلة صعود (الإقليمي) في منطقة الشرق الأوسط أمام (الدولي) الذي أتى غازياً في عام2003quot;لكي يعيد صياغة المنطقةquot;. هذا أولاً، فيما هناك ثانياً اتجاه عند واشنطن، وهو واضح منذ كابول2001وبغداد2003، إلى أن لا تكون هناك خرائط جديدة في المنطقة الممتدة بين كشمير وشرق المتوسط وبين ديار بكر وعدن، وهو أمر كانت إرهاصات ملموسة منذ وقوف الولايات المتحدة مع صنعاء ضد انفصاليي الجنوب اليمني في حرب1994، ويبدو أن واشنطن ،التي تعرف كيف قادت مشاكل البلقان ذي التركيبة الفسيفسائية إلى الحرب العالمية الأولى ثم كيف كان تفكك يوغسلافيا بتسعينيات القرن العشرين مصحوباً بأنهار من الدماء والدموع،لا ترى مصلحة في إعادة رسم خريطة غرب ووسط آسيا وجنوبها( وقوف الأمير كان ضد التاميل مثلاً في سيريلانكا) لأن هذا سيقود إلى لهب عالمي، وإقليمي، ومحلي بالعديد من البلدان، وقد كانت الولايات المتحدة مديرة فاشلة للحريقين العراقي والأفغاني، اللذين ارتدا لغير صالحها.
في السودان الوضع مختلف: أولاً كان هناك (في المحيط الإقليمي) إنشاءُ لخرائط جديدة من خلال الاعتراف الدولي بقيام دولة إريتريا في يوم24أيار1993.ثانياً ،كانت البيئة الإقليمية (أوغندا- كينيا- إثيوبيا- إريتريا حتى حربها مع أديس أبابا في عام1998) حاضنة، وبرعاية واشنطن، للتمرد الجنوبي ضد حكم الفريق عمر البشير، أولاً بزعامة غارانغ الذي كان لا يريد الانفصال وإنما quot;أفرقة السودان الجديدquot; ضد سودان مابعد1955الذي حكمتهquot;أقلية عربيةquot; وفق تعبير غارانغ، ثم تحت زعامة سيلفا كير، خليفة غارانغ بعد مقتله بحادث طائرة في تموز2005،الذي سعى بالسنوات الخمس الماضية لقيادة الجنوبيين في مسارات انفصالية واضحة.كان المحيط الإقليمي الإفريقي المجاور لجنوب السودان مؤيداً بوضوح لتوجهات سيلفا كير، فيما كانت واشنطن في موقف رمادي تجاه انفصال جنوب السودان ،الذي تقع الآن ضمنه80%من احتياطات النفط السوداني (إذا احتسبت بداخله منطقة أبيي، المتنازع عليها بين قبيلة المسيرية العربية وقبيلة الدينكا الزنجية)، حتى أظهرت الوزيرة هيلاري كلينتون،في خطاب أمام مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن بيوم8أيلول2010،الموقف الأميركي معتبرةً أن quot;الاستفتاء القادم \9كانون ثاني2011\سيقود إلى انفصال حتمي لجنوب السودان عن الشمال...\وواصفةً\الوضع في السودان بأنه قنبلة موقوتةquot;،وهو ما استُتبِع بتحركات جنوبية سودانية،وعند بعض القوى السودانية المعارضة وأيضاً عند بعض سلطة الخرطوم، توحي وكأن كلام كلينتون هو quot;خريطة طريقquot;لذلك الاستفتاء، فيما تجري مؤخراً تحركات في أروقة مجلس الأمن الدولي بنيويورك لتطبيق مطالبات الجنوبيين بإقامة مناطق عازلة بين الشمال والجنوب قبل الاستفتاء تشرف عليها قوات دولية.
عقب الرعاية الدولية لاستقلال كوسوفو عن صربيا ،في شباط2009،كان هناك الكثير من ارتفاع الروح المعنوية عند قياداتquot;الحراك الجنوبيquot;في اليمن:لم يؤد هذا إلى جعل مصير علي سالم البيض مماثلاً لهاشم تاشي أولسيلفا كير، وإنما بدلاً من ذلك رأينا مزيداً من الاحتضان الدولي للرئيس علي عبدالله صالح. هذا يعني، موضوعياً وأيضاً في رؤية الدول المؤثرة دولياً وإقليمياً، أن السودان ،أو على الأقل جنوبه، هو في دائرة إقليمية هي غير التي تقع فيها عدن،التي من الواضح أنها ضمن دائرة إقليمية واحدة تشمل آسية العربية ومصر وتركية وإيران ووسط آسية وصولاً إلى كشمير ثم جنوباً عبر شبه القارة الهندية حتى سريلانكا.