خيري منصور

ليس بعيداً عنّا ذلك الزمن الذي كان اسم السّودان فيه مُقترناً بمصر، فالبلدان توأمان بمقياس ما يسمى توائم الماء، وإلى اليوم هناك شوارع في عواصمنا العربية لم يتغيّر اسمها القديم وهو شارع مصر والسّودان، وقد لا يكون من المناسب الآن العودة إلى فك الارتباط بين التوأمين، فما يحدث الآن أجدر بالتوقف، لمُساءلة التاريخ أولاً عمّا يؤول إليه في مراحل يجري فيها تفسيخ وتشطير كل شيء حتى ماء النّهر الذي يود البعض أن يفرغه في جرار كي يفقد تياره .

وبعد خمسة أشهر على الأكثر، سيكون التّصويت الذي طالما كان مستبعداً على تقسيم السودان بحيث يصبح اسمه الجديد هو السودان والسودان تماماً كما أن اليمن الذي احتفل ذات يوم بوحدته والتئام جرحه، أصبح هو الآخر مهدداً بالسكين ذاته، وأول ما يجب التنبه إليه قبل تقصّي أبعاد هذه المشكلات بل الإشكاليات التي باتت عصية على الحلول، هو المناخ الدولي الذي نعيشه منذ عقدين من الزمن، ومنذ نهاية الحرب الباردة، فهو مناخ ملائم للقسمة والطرح وفق رياضيات ما بعد الحداثة التي فرضها نظام عالمي جديد هو في حقيقته المرادف الدقيق للفوضى في أقصى جنونها، فالريح الآن مواتية خصوصاً أن هناك في عالمنا نوافذ شبه مخلوعة ولم يتنبه أهل الدار إلى صيانتها قبل فوات الأوان .

وقد لا ينجو بلد عربي من عدوى هذا الفيروس الذي طوّر نفسه عن فيروس قديم في الربع الأول من القرن الماضي هو سايكس بيكو وما انتهى إليه من تشطير لهذا الوطن العربي بين خطوط طول وخطوط عرض، والآن بعد أن طوّر الفيروس نفسه ليتأقلم مع مضاداته أصبحت معاهدة سايكس بيكو على يسار معاهدات محلية وشيكة التوقيع، وإن كان أي توقيع على تشطير بلد عربي هو إيقاع أولاً وقد يتحول بسبب الخلخلة للنسيج الديمغرافي وتفاقم عدم الاستقرار إلى وقيعة، ولدينا أمثلة لا يتطلب عرضها غوصاً في أعماق المحيط لأنها ملقاة أمامنا على الشواطئ .

ومَن أنشدوا قبل نصف قرن لوحدة كبرى تشمل الوطن العربي من الماء إلى الماء ومن الدم إلى الدّم، ينشدون الآن لوحدة البلد الواحد الذي ينغرز السكين في خاصرته ومن الطبيعي أن تتحول متوالية الانشطار هذه إلى ما يسمى التّذرر، بحيث يصبح النسيج برمته تالفاً ومُتآكلاً وفاقداً لأية مناعة .

ولو احتكمنا إلى المصالح والحواسيب أكثر من الأناشيد والوجدانيات لوجدنا أن كل تقسيم هو تدشين لانتحار وطني تحت مختلف الذرائع والشعارات، والخاسرون من هذا ليسوا أفراداً أو جماعات فقط بل الوطن كلّه، والمفارقة أن ما كان يكتب ويبث على مدار الساعة في الوطن العربي قبل عقد من الزمن هو التحذير من الدّولة المكتفية بذاتها أو المتشرنقة داخل حدودها، لأن هذا الزمن أصبح فيه الجميع يبحثون عن قواسم مشتركة وكيانات تاريخية وأحياناً لغوية أو اقتصادية كي يؤلفوا تكتلات وحالات من التجمع والاحتشاد دفاعاً عن النفس أولاً .

وإذا كان الاستعمار خدمة لاستراتجياته قد فكك القبضة القومية للعرب وفرّق الأصابع كي يسود، فإن العرب تولوا بعد ذلك بتر الأصابع كي يكون لكل عقدة أو أظفر دولة . وإذا كنا على موعد مع جغرافيا سياسية جديدة يصبح فيها السودان اثنين واليمن أربعة والعراق خمسة فإن هذا الموعد هو مع انتحار مُحتّم .