رضوان السيد

تقتضي الكتابة في الصفقة الضخمة للتسلح والتدريب بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، معرفة عسكرية واستراتيجية، لا يملكهما كاتب هذا المقال. لكني أود التعليق على جوانب سياسية واستراتيجية وإقليمية، تضع الصفقة في سياقها اللائق بها من النواحي المجاورة والمحاورة للعسكري والأمني والاستراتيجي. وأول ما ينبغي الانتباه إليه أن الصفقة جاءت مفاجئة لجهتين: أنها حدثت بسرعة، وأنها مع الولايات المتحدة. إذ من المعروف أن السعودية، مثل بعض البلدان العربية الأخرى، ركزت في العقد الأخير على الاتجاه إلى فرنسا وانجلترا في التزود بالمعدات العسكرية والتدريب. وكان ذلك لعدة أسباب: أن الأميركيين يترددون كثيراً في إجراء صفقات تسلح معتبرة مع دول عربية بسبب الاعتراضات الإسرائيلية، ولأن العرب أنفسهم ما كانوا يميلون في السنوات الأخيرة لطلب الأسلحة من الولايات المتحدة، ليس بسبب البطء أو التباطؤ وحسب، بل ولأن الغزو الأميركي للشرق الأوسط قلل كثيراً من الحماس لتوثيق العلائق مع الولايات المتحدة. وهكذا كان الإعراض الجزئي عن إجراء صفقات تسلح بين الولايات المتحدة والبلاد العربية، عائداً لسبب مزدوج أو أنه آتٍ من الطرفين.

علينا عندما نتأمل هذه الصفقة وظروفها، أن نعود للسنوات العشر الماضية، الحافلة بالأحداث والتطورات. فقد افتتح هذا العقد كما هو معروف، بهجمات quot;القاعدةquot; على الولايات المتحدة، وردة فعل إدارة بوش بشن الحرب العالمية على الإرهاب. وقد تضمن ذلك القيام بهجمات عسكرية في ناحيتين عبر العالم الإسلامي: شبه القارة الهندية، والشرق الأوسط. وفي أفغانستان دعم الأميركيون والسعوديون quot;طالبانquot; في البداية للخلاص من فوضى المجاهدين وتطرفهم، ثم حاول السعوديون إرغام quot;طالبانquot; على التخلص من بن لادن. أما العراق، فالمعروف أن السعوديين استضافوا القوات الأميركية (أيام بوش الأب) لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. وبذلك فالغزو الأميركي لهذين البلدين عامي 2001 و 2003 عنى فشلاً ذريعاً منهما في quot;استيعابquot; المشكلات في علاقة الطرفين. بل كان الأمر أسوأ من ذلك، إذ حمّل جانب من السياسيين الأميركيين السعودية جزءاً من المسؤولية في هجمات تنظيم quot;القاعدةquot;، بدعوى أن التنظيم زعيمه سعودي، وأن المشاركين في هجماته أكثرهم سعوديون. لذا ما استشيرت المملكة في quot;الغزواتquot; استشارات جدية، كما أن التعاون في ذلك ما كان مطروحاً. بل اكتفى الأميركيون بالاستعانة بقواعدهم في الكويت، وبالتسهيلات في مواطن أخرى بالمشرق والمحيط الهندي وأوروبا. وفيما بعد اهتموا بتقوية قاعدتهم في قطر. ويكون علينا أن نلاحظ هنا أنه ومنذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، فإن الآلاف القليلة من الأميركيين الذين كانوا يعملون في التدريب والتزويد، تركوا المملكة بطلب من السلطات السعودية، للمطالب الشعبية التي تصاعدت بعد حرب الخليج الثانية. وينبغي في هذا الخصوص أن لا نتجاهل السخط العربي الكبير على غزو العراق، وهو الذي جعل سلطات مصر والسعودية وغيرهما تتردد في التعاون فيما لو عُرض عليها ذلك.


وقد ترتب على هذه الأجواء المملوءة بالشكوك والهواجس أن الولايات المتحدة ما تلقت دعماً علنياً في غزواتها الشرق أوسطية إلا من إسرائيل، في حين تلقت دعماً سرياً غير مباشر من إيران بأفغانستان والعراق. وقد أحدث ذلك اختلالاً في التوازن الشرق أوسطي إلى حد كبير، وترتب عليه تحول إسرائيل منذ عام 2002، وتحول إيران منذ عام 2006 الى المبادأة والهجوم: الإسرائيليون بغرض تأمين جبهاتهم إلى الأبد، والإيرانيون بهدف خلق مناطق نفوذ في العالم العربي، ومشاركة الولايات المتحدة وتركيا في النظام الأمني للمنطقة وبالمشرق والخليج. إن هذا quot;الفراغ الاستراتيجيquot; الذي تحدث عنه وزير الخارجية السعودي عدة مرات، والذي عنى تجاهل المصالح العربية من جانب الولايات المتحدة وإيران معاً، وتغيير موازين القوة لصالح قوى أخرى في المنطقة وخارجها، ليس من بينها مصر والسعودية، والانصراف شبه الكلي عن محاولة حل النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والانحياز شبه الكامل إلى إسرائيل، فيما عدا الحديث الذي ازداد بعد عام 2007 عن حل الدولتين.

على أن هذا الاختلال في التوازن بالمنطقة لغير صالح عرب المشرق، وبخاصة السعودية، ما اقتصرت آثاره على الأمور العامة، بل تعدى الأمر ذلك الى أمور ومسائل تخص أمن المملكة بالذات، مثل الحدود السعودية مع العراق، والحدود السعودية مع اليمن (مشكلة الحوثيين ثم مشكلة quot;القاعدةquot;)، وتصاعد التهديدات بحرب أميركية- إسرائيلية- إيرانية.

وما وقفت السعودية (وبعض دول الخليج الأخرى) مكتوفة الأيدي أمام هذه التحديات القديمة الجديدة، إذ قادت السلطات حواراً وطنياً واسعاً استمر لسنوات لمراجعة كل المسائل بحرية. وفي عام 2007 طرح الملك عبدالله بن عبدالعزيز مبادرة حول الأديان والثقافات لتغيير النظرة إلى الإسلام وإلى المملكة في المجال العالمي. هذا بالإضافة إلى الإصرار على المبادرة العربية للسلام.

بيد أن هناك جانباً آخر مهماً في التصرف السعودي ينبغي الاهتمام به، وهو جانب المصالحات العربية التي بدأت في مؤتمر القمة الاقتصادية بالكويت قبل عامين، وهي مصالحات بادرت إليها السعودية لغرضين: الإجماع على مبادرة جديدة لحل القضية الفلسطينية، وإيقاف الاختراقات في الصفوف العربية. وقد كان هناك تواصل كثيف في عدة اتجاهات، لكنه لم يؤت أُكله في الهدفين. إذ ما أمكن الوصول إلى إجماع على أساليب العمل في القضية الفلسطينية، رغم وقوف العرب متحدين هذه الأيام أمام الإصرار الإسرائيلي على يهودية الدولة والاستيطان. كما أن الفتنة والنزاعات الداخلية تزداد بالعراق ولبنان واليمن وفلسطين، ويشيع التوتر السياسي والاجتماعي في بلدان عربية أخرى، وبتدخلات خارجية أيضاً. وهكذا فسياسة الانكفاء لم تفد العرب شيئاً، بل إن الاضطراب وصل إلى حدود السعودية ومصر، وبدفع خارجي.

وفي عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فإن المملكة اعتمدت سياسات مبادرة بالداخل ونحو الخارج، بيد أنها لم تتحول إلى عمل جماعي عربي. وذلك لأن بعض العرب لم يقتنعوا بها، ولأن المتدخلين الخارجيين ما رأوا لها صدقية ما داموا يستطيعون إرغام quot;حلفائهمquot; من العرب على أن يبقوا معهم بحجج مختلفة، فتبقى النداءات السعودية صرخات في واد!

إن هذا كله لا يعني أن صفقة التسلح السعودية الكبيرة كافية لمعالجة الاختلال والموقف المتأزم لغير صالح العرب. بيد أن quot;دبلوماسية القوة الناعمةquot;، والتي قادتها السعودية على مدى عقود، ما عادت كافية في ظروف التهديد والحصار العسكري أو الاستراتيجي. ولذا فالذي يراه عدد من المراقبين أن سياسات الوساطة والمصالحة والإجماع السعودية التقليدية لن تتغير بعد الصفقة، لكنها ستُمكن المملكة والمحيط الخليجي من استعادة شيء من التوازن والقدرة على المبادرة، والإسهام في ملء الفراغ الذي يثير مطامع المحيطين، القريب والبعيد، مما يسهم في حفظ الأمن في الخليج وفي المحيط، ويعطي لسياسات التوازن والمصالحة صدقية جديدة.

أما الجانب الآخر من المشهد، فهو اندفاع الولايات المتحدة في الموافقة على الصفقة، وهو أمر يتجاوز ولا شك تأمين فرص العمل، والتصدي لتأثيرات الأزمة المالية العالمية.