عبدالحسن بوحسين

الغلو أو التطرف extremism كلمة مشتقة من الطرف، وتعني الزيادة المفرطة أو الميل الحاد إلى طرف. والمتطرف قد يكون شخصاً أو جهة ترفض الوسطية وتتبنى أفكاراً تقود إلى ارتكاب أفعال خارج المألوف beyond norm. وتكمن خطورة التطرف عندما يتعدى الأقوال ويكون مصحوباً بمصادر القوة والنفوذ. وبصفتها كذلك تلجأ الجهة المتطرفة في الغالب إلى استخدام أساليب غير مشروعة لتحقيق أهدافها. ولكونه شعوراً كاذباً يصبح التطرف صفة للغير، فنادراً ما نرى فرداً أو جماعة لا تنأى بنفسها عن صفة التطرف، ويشير كثير من الباحثين إلى الترابط بين التطرف والتصنيف الإقصائي أي ميل المتطرف إلى إقصاء أو إلغاء الآخر مما يولد في الغالب ظاهرة العنف والإرهاب. لهذا السبب أعتبر التطرف رديفاً للإرهاب. وقد نهى الإسلام عن التطرف وحث على الوسطية (كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) البقرة 143، كما نهى عن الغلو (يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم) المائدة 77.

وبالرغم من أن التطرف قد اشتهر بصفته الدينية التكفيرية إلا ان نطاقه أكبر اتساعا ويشمل مجالات أخرى كالتطرف السياسي ممثلا في استبداد الأنظمة الشمولية، والتطرف الاقتصادي ممثلا في الأنظمة الاستعمارية، والتطرف القومي و العنصري ممثلا في النازية والفاشية، والتطرف الفئوي ممثلا في العصبية والاستئثار. وبطبيعته الشمولية هذه أصبح التطرف وباء عالميا له انعكاساته المدمرة على جميع الأصعدة.
التعريف الدولي للإرهاب

لا يوجد تعريف دولي دقيق متفق عليه لتحديد معنى الإرهاب. فالاستراتيجية العالمية لمكافحة الإرهاب التي تبنتها الأمم المتحدة في العام 2006 تدين الإرهاب بجميع أشكاله ومسبباته وبغض النظر عمن ارتكبه. وهذا النص يحمل معاني وتأويلات ملتبسة equivocal. لكونه لا يعرف الإرهاب بصورة دقيقة. وفي غياب التعريف الدقيق أصبح من غير الممكن إحالة أي عمل إرهابي للمحكمة الدولية كما هو الحال عليه بالنسبة لجرائم الحرب والإبادة الجماعية. وبهذا الخصوص فقد أوضح تقرير صادر عن جامعة شرق لندن أن غياب التشريع والاتفاق الأممي على تعريف الإرهاب قد جعل من القوانين الجنائية المحلية في كل دولة على حدة، وكذلك الترتيبات الثنائية هي الأداة الأساسية المستخدمة لمكافحة الإرهاب وفقاً لتعريف كل دولة، كما هو الحال عليه بالنسبة لقانون باتريوت الأميركي patriot act والذي نال من المبادئ المقدسة للمؤسسين الأوائل للولايات المتحدة الأميركية والمتمثلة في الحرية الشخصية وحرية التعبير. فوفقاً لهذا القانون يتم الحجز على الأفراد بصورة انتقائية ومن دون محاكمة ولأمد طويل. وقد ساد التخبط بسبب مثل هذه القوانين فشملت قائمة مراقبة الإرهاب مليون شخص من بينهم نيلسون مانديلا، فحدة التطرف العنصري حولت مناضلاً من أجل العدالة والحرية إلى إرهابي terrorist convicted. مما حدا به للكتابة بمرارة في مذكراته الشخصية بأن خمسين سنة من النضال السلمي لم تجلب إلى شعبه سوى تشريعات ظالمة وحقوق محدودة، وكأنه بذلك يكرر مقولة دانتي في الكوميدية الإلهية والقائلة بأن الأماكن الأسخن في الجحيم محجوزة لأولئك الذين يظهر حيادهم أثناء الأزمات الأخلاقية.

إن لفشل المجتمع الدولي في تحديد معنى الإرهاب تبعات سياسية ضاعفت من أخطاره. فعلى المستوى العالمي أدت سياسة التطرف التي انتهجها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأميركية إلى عولمة التطرف والإرهاب، فتبني مقولة الصراع بين المسيحية والإسلام وبالإشارة إلى الحروب الصليبية، التي أعتبرت من مبررات احتلال أفغانستان والعراق من دون تخويل أممي، وما تبع ذلك من بطش، وتعذيب، وتدمير، ونهب الثروات لصالح شركات الساسة والمتنفذين، كل هذه الأفعال المشينة عززت النهج المتطرف والإرهاب على الجانب الآخر وقدم لبعض الدول الشمولية سابقة لتبني مثل هذا النموذج المدمر.

من جهة أخرى، فإن غياب التعريف الدولي للإرهاب له تبعات أخرى تتعلق بالخلط بين القضايا العادلة just cause والأعمال الإرهابية. ففي الشأن الفلسطيني مثلاً يعترف المجتمع الدولي بعدالة القضية الفلسطينية إلا أن استثناء حركة حماس من المفاوضات واعتبارها منظمه إرهابية فوت الفرصة لتحويلها الى عامل مساعد في خطة لإحلال السلام. فالحساسية المفرطة الكامنة في الفصل بين الاعتراف السياسي بحقوق الآخر من جهة واستبعاده exclusion من جهة أخرى ساهم في انتشار ظاهرة العنف والإرهاب. وحيث إن التطرف هو رديف للإرهاب فإن لاحتضان التطرف تبعات وأثمان باهضة تأخذ حاضنيها على حين غرة. ففي صراعها مع الاتحاد السوفياتي السابق احتضنت الولايات المتحدة الأميركية التطرف والاستبداد لأغراض سياسية واقتصادية فارتد عليها، وتلبسها إرهاب لا خلاص لها منه. كما استثمرت أميركا الكثير في صناعة الإرهاب والاستبداد لاحتلال العراق وأفغانستان وإذا بها تغوص في وحل حرب لا نهاية لها باتت تستنزف مواردها البشرية والاقتصادية.

فميزانية الأمن الوطني مثلا استنزفت في العام 2009 مبالغ تجاوزت 44 بليون دولار وانتقصت من الحرية الفردية للمواطن الأميركي. وقد تنبه الأمين العام للأمم المتحدة لخطورة مثل هذا المنحى فقدم تقريرا للأمانة العامة في العام 2008 ذكر فيه قادة العالم أن مكافحة الإرهاب يجب ألا تنال من ما حققته البشرية من حقوق مدنية على مر العصور.
مسببات التطرف

للتطرف اسباب عدة منها بيئة النشأة، والمصالح المادية، والتأثيرات المجتمعية ممثلة في غسل الدماغ indoctrination والتي لم يتم وضع صورة نمطية سايكولوجية موثوقة لها.

ويحدد علماء السياسة أسباباً أخرى إضافية ممثلة في العجز السياسي political impotence الناتج عن غياب المساءلة وحكم القانون (الحكم الصالح) وبروز ظاهرة الاستبداد tyranny بجميع أشكاله. وقد نصت الاستراتيجية العالمية للأمم المتحدة على أن الدول التي تفرخ الإرهاب هي التي لا تقيم وزناً لحقوق مواطنيها، والتي تمارس التمييز بجميع أشكاله، والإقصاء السياسي والتهميش الاقتصادي والاجتماعي. كما ان الدول المستبدة التي لا تعير اهتماماً للقضايا العادلة للشعوب الأخرى وتعمل على نهب ثرواتها وإفقارها تلجأ عادة لكل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافها ومن بينها احتضان التطرف وصناعة الإرهاب. يقول عالم الأنثروبولجيا سكوت إتران الذي كثيراً ما تستشيره الحكومة الأميركية حول الخصائص الاجتماعية والتنظيمية للمنظمات الإرهابية ان هناك انطباعاً متنامياً بأن المهاجرين من اصول اسلامية في الدول الأوروبية كثيرا ما يلقى بهم على الهامش، وهذا الانطباع يتم استغلاله إعلامياً من قبل المنظمات الجهادية لتبرير أفعالها. وهنا يشير سكوت الى عامل التهميش والتمييز كسبب لظاهرة العنف والإرهاب. ويشير مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2010 الى ان الأوروبيين باتوا محشورين بين الخوف من الإرهاب ومن الساسة الذين يستغلون هذا الخوف لأغراض سياسية. ويشير المقال الى البرلماني الهولندي جيت وايلدرز المعادي للمسلمين من أجل لعب دور في حكومة المحافظين بعد الانتخابات مستغلا خوف العامة من الإرهاب الذي علق بالمسلمين. كما يشير المقال الى هدف الرئيس الفرنسي ساركوزي من إقرار قانون منع النقاب الذي ترتديه بضعة آلاف من أصل خمسة ملايين مسلمة في فرنسا حيث الدافع هو الحصول على دعم أقصى اليمين قبل الانتخابات في العام 2012. فقد وجد ساركوزي ضالته في النقاب لتحقيق أهداف سياسية وطموحات شخصية ولا ضير بعد ذلك من نشر الكراهية والتطرف والإرهاب.

ويتطرق البرفيسور روبرت بيب من جامعة شيكاغو والخبير في الأمن الدولي ومسائل الإرهاب الى بحث أجراه مع زملائه على 2200 عمل إرهابي وقع في مناطق عدة من دول العالم منذ العام 1980 الى أن الأسباب الكامنة وراء الإرهاب التي توردها الحكومة الأميركية والمتمثلة في الأصولية الإسلامية هي أسباب غير صحيحة وفقا لنتائج البحث التي اكدت أن احتلال أراضي الغير هو السبب الجوهري الكامن وراء العمليات الإرهابية. وتشير نتائج البحث والتحليل الى أن من أصل 33 هجوماً انتحارياً وقع ضد أهداف أميركية وبريطانية وفرنسية في الفترة من 1982 لغاية 1989، خمسة منها فقط منسوبة لمنظمات دينية، و22 منها نسب لمنظمات يسارية ليست لها أية التزامات دينية، في حين يستغل الدين كعامل مساعد لأغراض التوظيف فقط ، في حين يبقى طرد المحتل هو السبب الرئيسي لهذه الهجمات الإرهابية. ويستشهد الباحث بالهجوم الذي وقع في أكتوبر العام 1983 ضد مواقع البحرية الأميركية في لبنان والذي على إثره أمر الرئيس ريغان بسحب الجنود الأميركيين من لبنان في العام التالي.

ويشير المقال الذي نشره البروفيسور بيب في صحيفة لوس أنجليس تايمز بتاريخ 22 أكتوبر 2010 إلى أن أميركا مازالت لم تتعلم الدرس من لبنان واستمرت في إرسال جيوشها لاحتلال أراضي الدول الأخرى كما هو الحال عليه في أفغانستان والعراق.

إن محنة الإرهاب التي ابتلي بها العالم تتطلب تعريفا دوليا متفقاً عليه للفصل بين الإرهاب والقضايا العادلة المتناسقة مع المواثيق والقوانين الدولية والتي يتطلب حلها الاعتراف بوجودها ومن ثم إخضاعها للنهج السياسي السلمي من أجل معالجتها. وخير مثال على ذلك هو اعتراف الحكومة البريطانية بشرعية مطالب الجيش الجمهوري الأيرلندي بضرورة وجود حكومة عادلة في ايرلندا الشمالية كأساس للتفاوض مع الجناح السياسي (الشين فين). وقد مهد هذا الاعتراف لإدماج السين فين كشريك في حكومة منتخبة مما حقق الاستقرار في الشطر الشمالي.

إن تبني سياسة الوسطية والاعتدال ونبذ التطرف والتشنج هي مواقف تتناسق وديننا الحنيف. كما أن التاريخ يبرهن لنا دوما ان منهج التطرف قد أهلك أقواما قبلنا. فمن أجل مستقبل آمن ومستقر وجب التعلم من تجارب الأولين. فاستقراء المستقبل، كما يقول عالم الأعاصير الأميركي في أريزونا، يتطلب أولا معرفة الماضي. ولنا في مملكة البحرين تجربة ليست ببعيدة لو تأملناها قليلا لأصبح مستقبلنا خيراً من حاضرنا، فهل لنا أن نتأمل؟