علي محمد فخرو
لو أن الفوائض المالية البترولية العربية تركز سوء وبلادة استعمالها في المجال الاقتصادي والسياسي والأمني لهان الأمر لحد ما. فاستعمالها في المضاربات العقارية والبورصية، أو في بناء اقتصاد ريعي زبوني طفيلي، أو في تكوين ظاهرة الاستزلام السياسي الفاسد، أو في البعثرة الطفولية على شراء أسلحة لا تحمي الأمة ولا ترد المعتدين.. استعمالها بهذا الشكل ستظل آثاره السلبيًّة محصورة في قلًّة من الناس أو في جيوب مجتمعية لها حدود. وعلى العموم ستبقى آثار مؤقتة، وستعكس مسارها وستصححها القوى السياسية الحيًّة في الأمة في المستقبل المنظور.
لكن عندما تستعمل تلك الفوائض استعمالاً سٍّيئاً في المجال الثقافي فان الآثار السلبية لن تكون محصورة ولا مؤقُتة يسهل التعامل معها في المستقبل المنظور. فالآثار في هذه الحالة ستصيب روح الأمة بالتشوه وعقل الأمًّة بالضًياع، وستهيٍّئ أجيال الأمة الجديدة للسقوط في حبائل الثقافة العولمية الاستهلاكية المسطًّحة الموغلة في عوالم الحسٍّ واللذة والغرائز البدائية.
والنتيجة لتلك التشوهات ستكون كارثية. في الاقتصاد سنكون أمام إنسان غير منتج، استهلاكي وأناني. في السياسة أمام مواطن فردي غير ملتزم بقضايا أمته وغير معني بالإصلاح والتغيير، بل ورافض حتى القيام بواجبات المواطنة البسيطة من مثل التصويت في أية انتخابات سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الوطني. في الاجتماع أمام إنسان مهمل لالتزاماته تجاه أسرته أو بيئته أو مدرسته أو جاره. في الثقافة أمام مواطن فاقد الهوية لغة وديناً وتاريخاً وعادات وسلوكاً وانغماساً في كل ما يخدش حياء المجتمع ويثير القلق في كل جوانبه الحياتية.
هل ما نقوله أمر متخيل ومبالغ فيه؟ فلننظر إلى بعض من جوانب هذا الواقع الذي يفعله المال العربي في مجال الثقافة.
في مجال الأغنيه العربية، كمثل صارخ، تراجعت الأغنية الوطنية والاجتماعية، بل وتراجع حتى بثًّ القديم منها، بالرغم من أن الأمة تعيش أسوأ أوضاعها بالنسبة لرجوع الاستعمار وصعود المشروع الصهيوني وتمزُّق الأنسجة الاجتماعية الوطنية وتصاعد الانقسامات العرقية والطائفية وتفاقم الاستبداد والظلم. بل إن أغنية الحب أصبحت مبتذلة وغرائزية وخالية من أية رقة أو سمو أو تعفُّف. وبالرغم من وجود مشاكل البيئة والفقر والتهميش والمخدرات والعنف ضدُّ المرأة واغتصاب الطفولة إلاُ أن الأغنية العربية ترفض مسًّ مثل تلك المشاكل وتعيش في عوالمها الفردية المبتذلة التي لا ترى في العالم إلاً آهات وغرائز الشباب وبكائياته الغرامية.
والأمر نفسه، توجُّهاَ وعرضاً ومكوٍّنات ولغة وحركات، ينطبق على حقول المسرح، الذي أصبح تهريجاً ونكتاً تستدرُ الضحك الكاذب، والأفلام، التي أصبحت تحاكي هوليوود في التركيز على الجنس والجريمة والعنف الدموي وعوالم السِّحر والشعوذة والأرواح الشرٍّيرة، والمقابلات التلفزيونية، التي أصبحت في غالبها مع مجانين السياسة أو بلادات جميلات المكياج والعمليات الجراحية والأقنعة الاصطناعية أو مع المطبلين المزمًّرين للأنظمة الفاسدة التًّابعة للخارج وللرموز السياسية المضحكة المبكية المخرٍّفة الجاهلة. فإذا أضفنا إلى كل ذلك قنوات الرًّقص الهمجي الرًّخيص، وقنوات الأفلام الأجنبية، وأغلبيتها السًّاحقة هوليودية، الممعنة في عنفها وإباحيًّتها، والقنوات الدينية المهووسة بطائفيتها أو شعوذاتها أو تحجُّرها الفقهي أو كذبها التاريخي، وأضفنا إلى كل ذلك الصحف التي ترى في المواقف الاستعمارية والصهيونية وفي بعض التواطؤ العربي الرسمي عقلانية بينما لا ترى في المقاومة العربية وفي الأحزاب الوطنية والقومية إلا تخلُّفاً وغوغائية، فإننا أمام أرض اليباب الثقافية التي لا يمكن إلاُ أن تؤدي إلى التشوهات العقلية والروحية والنفسية للأمة التي وصفنا من قبل.
نحن أمام فوائض مالية بترولية تفتٍّش عن مجالات لاستثمار تدرٌّ الأرباح والعوائد المجزية. وقد اكتشفت مؤخراً كنوز حقول الثقافة والإعلام وقررت استنزافها بكل وسيلة ممكنة، حتى ولو كانت على حساب الأمة في حاضرها ومستقبلها. وسواء أكانت تقصد أو أنها لا تقصد فان الدًّمار الهائل الذي تحدثه في البنية الروحية والعقلية والعاطفية لأبناء وبنات الأمة أصبح من الكبر والاتساع بحيث أنه يهدد، مع غيره من الأخطار التي تحيط بالأمة، مستقبل الأمة والوطن.
إن الحرية الثقافية، كتعبير كتابي وفني وإعلامي، التي حلم بها العربي منذ بداية عصر النهضة قبل قرنين من الزمان، أوصلها المال البترولي إلى حالة أزمة حقيقية. لقد أصبحت حرية مستباحة من قبل أصحاب المال المستثمرين بعد أن كافحت طويلاً للتخلص من استباحتها من قبل أصحاب السلطة السياسية والعسكرية وغيرها. من قبل استبيحت الحرية بوسائل القمع والظلم والبطش، واليوم تستباح بشراء كل وسائل التعبير الثقافي من أجل جعلها حريًّة مبتذلة لا تساهم في السمو الإنساني وإُنما تحطّم إنسانية الإنسان العربي.
- آخر تحديث :
التعليقات