صبحي حديدي

في انتظار أن يبرهن موقع 'ويكيليكس' عن مصداقية أعلى (كما، على سبيل المثال، حين سينشر برقيات الدبلوماسية الأمريكية عن شهرَيْ تموز/ يوليو وآب/ أغسطس 2006، سنة العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان؛ أو برقيات الحرب الوحشية الأخرى ضدّ قطاع غزّة، نهاية 2008)، من الإنصاف استذكار واحد من أشرس، وأصدق نقّاد الإمبريالية الأمريكية المعاصرة: شالمرز أشبي جونسون (1931 ـ 2010)، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام.
جونسون ـ الذي كان أستاذاً بارزاً في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو، ورئيساً لـ'معهد أبحاث سياسة اليابان'، و'مركز الدراسات الصينية' ـ وضع ثلاثة من أعمق الأعمال التي تستهدف تمحيص، وبالتالي فضح، العواقب الوخيمة للإمبراطورية الأمريكية: 'ردّ الصاع: أكلاف وعواقب الإمبراطورية الأمريكية'، 'ضرّاء الإمبراطورية: النزعة العسكرية، الكتمان، ونهاية الجمهورية'، و'نيميسيس: الأيام الأخيرة للجمهورية الأمريكية'. ولعلّ العمل الأخير هو التحليل الأعمق والأشجع والأشدّ قتامة لانحطاط الديمقراطية الأمريكية في ولايتَيْ الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، رغم أنّ أفكار جونسون تندرج ضمن تيار عريض ناقد، من مواقع ونظريات جيو ـ ستراتيجية ومشارب إيديولوجية متباينة، للنزعة الإمبراطورية ـ العسكرية التي تبلورت في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، وتعاظمت فبلغت ذروة قصوى في ظلّ الإدارة السابقة.
وعلى امتداد فصول هذه الأعمال الثلاثة، ذكّرنا جونسون بواحد من أقسى دروس التاريخ: أنّ بين أشدّ خلائط السياسة خطراً، وشذوذاً وغرابة وانعدام استقرار، هذه الخلطة التالية التي تعيشها الولايات المتحدة في مسعاها لأن تكون، في آن معاً، ديمقراطية داخلية وإمبريالية خارجية. لكنّ جديد جونسون، الذي ميّزه عن سواه، كان واسع النطاق ومتشعباً من جانب أوّل، ومنغمساً أكثر في تحليل العلاقة الطردية بين صعود الإمبراطورية خارجياً وتآكل الديمقراطية داخلياً، وذلك رغم انكسار الأحلام الكبرى لإدارة بوش: الهيمنة الكونية، والانفراد بموقع القوّة الأعظم والأوحد خارجياً؛ وهيمنة الحزب الجمهوري في الداخل، طيلة جيل كامل قادم على الأقلّ. النصف الخارجي من الحلم يتبخّر كلّ يوم، في العراق وأفغانستان؛ والنصف الداخلي تبخّر بالفعل، في أعقاب انتخابات تجديد الكونغرس الأخيرة في عهد بوش، ولم يطمئن الجمهوريين تماماً في التجديد الأخير.
وضمن مشروع استكمال ما يسمّيه 'أوديسة تحليل' الإمبراطورية الأمريكية، أجرى جونسون مجموعة أبحاث حول شبكة من 737 قاعدة عسكرية أمريكية هنا وهناك في العالم (واستناداً إلى إحصائيات وزارة الدفاع الأمريكية ذاتها)، فاتضح له التالي: مع استثناء العراق وأفغانستان (وتخيّلوا دلالة هذين الإستثنائين!) تنشر أمريكا أكثر من نصف مليون جندي أو جاسوس أو متعاقد أو تابع، في قواعد عسكرية داخل أراضي أكثر من 130 بلداً، معظمها خاضعة لأنظمة دكتاتورية لا رأي البتة لمواطنيها في إقامة تلك القواعد.
وهنا مثال شهير على سياسة نشر القواعد العسكرية طبقاً لمفهوم إمبريالي محض: خلال الـ 61 سنة الماضية تخندق الجيش الأمريكي في جزيرة أوكيناوا اليابانية الصغيرة، فأقام فيها 37 قاعدة، ونشر 17,000 من مشاة البحرية في الفرقة الثالثة، بحيث صارت الجزيرة بمثابة المنشأة العسكرية الأمريكية الأضخم في شرق آسيا. ولقد ارتكب أفراد الجيش الأمريكي عشرات أعمال الاغتصاب والجريمة وتلويث البيئة وحوادث الطرق، وتسببت هذه في تظاهرات احتجاج واسعة في الجزيرة وعلى امتداد اليابان، لكنّ القاعدة ظلّت على حالها من حيث العدد والعدّة، بل حدث أنها تزايدت وتفاقمت آثارها الكارثية.
وثلاثية جونسون عُرفت باسمها المختصر 'ردّ الصاع' Blowback، ليس لأنّ العنوان يناسب مزاج الغطرسة العسكرية والنزوعات الثأرية لدى الحالمين بالإمبراطورية الأمريكية وصانعي قراراتها، فحسب؛ بل لأنها أيضاً مفردة شائعة لدى أوساط الإستخبارات الأمريكية، وفي قطاع العمليات السرّية تحديداً. فالمفردة لا تعني الانتقام ممّا حاق بالولايات المتحدة من أذى على يد جهات معادية، أياً كانت عقائدها وتكويناتها وأصولها ووسائلها، بقدر ما تعني عمليات الثأر الخارجية السرّية المنظمة، غير القانونية وغير المشروعة والمحرّمة دولياً؛ وطبقاً للتشريعات الأمريكية ذاتها، التي يتمّ إخفاؤها تماماً عن الرأي العام والجمهور.
وبالطبع، في رأس لوائح 'ردّ الصاع' تندرج عمليات إسقاط الحكومات الشرعية التي يبغضها البيت الأبيض لألف سبب وسبب، وتدريب ضباط الإستخبارات من بلدان أخرى ('حليفة'، 'شبه حليفة'، أو حتى معادية لأمريكا في العلن واللفظ فقط) على تقنيات إرهاب الدولة، وتزوير الإنتخابات في البلدان التي تنذر بصعود قوى معادية للمصالح الأمريكية، أو افتعال أزمات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية تزعزع استقرار البلدان المستهدفة، فضلاً عن تنظيم عمليات الإغتيال مباشرة أو عن طريق وسطاء عملاء... ويقول جونسون: 'إنّ حقيقة إبقاء تلك العمليات سرّية، في البدء على الأقلّ، تعني أنّ انكشاف العملية الثأرية ـ كما حدث على نحو استعراضي بعد 11/9/2001 ـ يجعل الجمهور الأمريكي عاجزاً عن وضع الأحداث في سياقاتها. وليس مفاجئاً، إذاً، أنّ الأمريكيين يدعمون أفعال الإنتقام الفورية السريعة الهادفة إلى معاقبة المذنبين، الفعليين أو المزعومين. ولا تقوم برهة الإنفلات الثأرية تلك إلا بتعبيد الأرض لجولة جديدة من ردّ الصاع'. وسواء شاء الأمريكيون أم أبوا، يساجل جونسون بشجاعة لافتة، فإنّ العالم خارج المحيط يراهم متورطين في، أو على الأقلّ: صامتين عن، الفظائع الرهيبة التي جرت في سجن 'أبو غريب' العراقي، وفي قاعدة 'باغرام' الجوية في كابول، وفي سجن غوانتانامو، فضلاً عن انتهاك المخابرات الأمريكية للقوانين الدولية وإقامة المعتقلات الطائرة والسجون السرّية. وحين شرع الرجل في كتابة الجزء الثالث من السلسلة، لم يكن لديه شكّ في أنّ الحفاظ على هذه الإمبراطورية الخارجية لا بدّ أن ينعكس داخلياً فينتقص ممّا تبقّى ـ حسب تعبيره ـ من ديمقراطية أمريكية، ولعلّه سيفضي في نهاية المطاف إلى 'دكتاتورية عسكرية، ولكن ذات طابع مدني'!
ولكي لا يبدو هذا التحليل القاتم ضرباً من التهويل والمبالغة، يرسم جونسون المشهد التالي الذي لا ينطوي على أيّ تهويل أو مبالغة: ثمة خليط من جيوش هائلة منتشرة خارج البلاد، موضوعة في حالة حرب؛ واعتماد اقتصادي متزايد على المجمّعات الصناعية ـ العسكرية، وتصنيع الأسلحة خصوصاً؛ وإنفاق خرافي على القواعد العسكرية، مع تضخّم هائل غير مسبوق في ميزانية البنتاغون؛ إذا وضع المرء جانباً ذلك الإنتشار السرطاني لنفوذ وصلاحيات وزارة الأمن الداخلي، والتدمير المنظم لبنية الحكم الجمهوري لصالح رئاسة إمبريالية أكثر فأكثر. ولا يتردد جونسون في إنذار أبناء جلدته: 'نحن على حافة خسران ديمقراطيتنا من أجل الحفاظ على إمبراطوريتنا. وحين تسير الأمّة على هذا الدرب، فإنّ الديناميات التي تنطبق على كلّ الإمبراطوريات السالفة لا بدّ أن تنطبق علينا: العزلة، الإفراط في التوسع، توحيد العناصر المحلية والكونية المناهضة للإمبريالية، والإفلاس في الختام'.
وبالطبع، لا يتعفف جونسون عن استخدام كلمة 'النهاية'، مراراً في الواقع، وفي العناوين ذاتها أيضاً: ليست هذه نهاية الإمبراطورية وحدها، بل نهاية الجمهورية معها، سواء بسواء. ونعرف أنّ التاريخ يضرب أمثلة على قوى عظمى لمست في ذاتها قدرة خارقة على قيادة الكون، بإلهام من الله أو هبة خالصة من القدر، كما سيقول قادة تلك القوى وفلاسفتها. في القرن الأول قبل الميلاد رأى شيشرون أنّ الشعب الروماني يتحمل مسؤولية رعاية الكون وفرض القانون الروماني على 'الشعوب البدائية'، سواء بالإقناع أو بالإكراه؛ وتلك مرحلة حفظها التاريخ باسم 'السلام الروماني'. الإمبراطورية البريطانية كانت، من جهتها، بمثابة 'عبء الرجل الأبيض، الذي فرضته يد التاريخ الجليلة'، كما سيهتف الشاعر البريطاني الكولونيالي روديارد كبلنغ. مواطنه جورج أنوين كتب التالي في توصيف السلام البريطاني: 'إنّ حسّ الإمبراطورية ملائم لمزاج الإنكليزي، لكنّ ضميره السياسي ينفر منه. ماذا في وسعه أن يفعل؟ لا مهرب له من قبول هذا الواجب الأعلى الذي فرضه الله، وهذا الشرف الذي أسبغه القدر'.
بيد أنّ إمبريالية الولايات المتحدة كانت منذ البدء حالة استثنائية في بواعثها وأهدافها، رغم أنها ظلّت بدورها 'واجباً لا يجوز التواني عن القيام به'، و'هبة من الله'! محلّل أمريكي ظريف لم يتوان عن الشكوى من هذا العبء المقدّس في تحليله لما يسميه 'الإمبراطورية بالصدفة العمياء'. يكتب أرنولد ستيل: 'على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً، نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا'!
السلامان الروماني والبريطاني كانا، في الجوهر، سلسلة ترتيبات استهدفت حماية المصالح الرومانية والبريطانية عبر خلق نسق خاص من النظام والقانون تنتعش فيه تلك المصالح، فيجري تسخير الجهد العسكري بما يكفل حماية ذلك النسق. أمّا السلام الأمريكي فإنه يفترض مسبقاً حالة من التطابق والتوافق التامّين بين مصالح الولايات المتحدة، ومصالح الإنسانية جمعاء. والحكومات أو الحركات السياسية التي تعترض على هذا التطابق التلقائي إنما تضمر العداء للولايات المتحدة، ولسلامها الكوني، بالضرورة. الحرب ضد أولئك 'العصاة' تصبح، تأسيساً على ذلك، مهمة مقدسة تستهدف خير البشرية والمجتمع الدولي، وحملة مديدة من أجل عالم 'لائق' و'حرّ' و'ديمقراطي'. هذه، دون أيّ تبديل، هي اللغة التي استمعنا إليها كلّما تعيّن أن تذهب أمريكا إلى الحرب! وثمّة هنا تناقض موروث في الواقع، لأنّ هذا السلام الأمريكي يتّصف بأنه خير مَنْ يرسل، وأسوأ من يستقبل: لأنّ الأمريكيين يرسلون بفعالية عالية، فإن الإنسانية تكاد تتأمرك؛ ولكن لأنهم يستقبلون بشكل بالغ السوء، فقد قاوموا طويلاً محاولات أَنْسَنتهم، بمعنى تعليمهم كيفية التجاوب مع حاجات الإنسانية في ما يتبقى من العالم خارج حدود الولايات المتحدة، كما يقول الباحث الكيني علي مزروعي. الأمريكيون يملكون عدداً متنوّعاً ومتشعباً من لغات الإرسال والإتصال مع العالم الخارجي، ولكن ينبغي تمييز تلك الوسائل الموضوعة بتصرفهم عن تلك التي يستخدمونها فعلياً، وعن أشكال وأغراض استخدامها.
الإنتاج هو أحد تلك اللغات، فالولايات المتحدة دخلت الحرب العالمية الثانية كدولة بين دول متكافئة، أو تكاد، في قدراتها الاقتصادية، وخرجت منها صاحبة الاقتصاد الأعظم في الكون. والحرب التي دحرت رايخ هتلر وامبراطورية اليابان، أقعدت الحلفاء أيضاً، فاحتلّت الولايات المتحدة موقع صيرفيّ العالم الأول، مالك أسلحة فتاكة قادرة على صنع وصياغة السياسات الكونية، وصانع وسائط اتصال فعالة مثل الطاقة النووية وتكنولوجيا الاتصالات وقوّة الإستهلاك العالية والسيولة المالية المباشرة.
غير أنّ جوهر المعضلة يكمن هنا أساساً: أن تأنس قوّة كونية في ذاتها جبروتاً فائقاً يردّ الصاع إلى الخارج، ولكن لا يكاد يجلب من الخارج إلا ما يفتّ في عضد الإمبراطورية ويسير بها إلى خراب وتآكل. وبهذا المعنى فإنّ اختيار شالمرز جونسون شخصية نيميسيس، ربّة الثأر والإنتقام في الأسطورة الإغريقية، عنواناً لكتابه الأخير يفيد أوّلاً أنّ الربّة الغاضبة تجوس أرجاء أمريكا عموماً، وتستوطن البيت الأبيض خصوصاً؛ ولكنه يشدّد، ثانياً،على جانب آخر في وظائف نيميسيس الشائعة: أنها، غالباً، تردّ الصاع صاعين... إلى ذاتها، وعلى نفسها!