محمد كريشان

'من المعروف أن الدبلوماسيين سواء كانوا أمريكيين أو غير أمريكيين يشاركون في مناقشات صريحة مع مسؤولين حكوميين وأفراد من جميع مناحي الحياة، ويجب أن تبقى هذه المناقشات الصريحة خاصة وغير علنية، ويجب أن تكون هناك ضمانات للخصوصية إذا أريد لها أن تستمر' ... هذا ما كتبه السفير الأمريكي في الدوحة جوزيف ليبارون في مقال نشر أمس بالصحف القطرية.
لقد كان الحرج واضحا في كل سطر من هذا المقال الذي ظهر بعد أقل من يومين على ما عرف بتسريبات موقع 'ويكيليكس' وما تضمنته من آراء أمريكية في شخصيات وسياسات ونقل لوقائع وحوارات كان يفترض أن تظل سرية. ومما قاله أيضا هذا السفير صاحب الثلاثين عاما من الخبرة الدبلوماسيـــــة أن 'التقارير الداخلية لأي سفارة أمريكية تشكل عنصرا واحدا من بين عديد العناصر التي تشكل سياساتنا، التي يحددها الرئيس ووزير الخارجية في نهاية المطاف' ليخلص إلى أن مسؤولي بلاده سيظلون على التزامهم بالبقاء 'شركاء يمكن الوثوق بهم' وإلى أن الإدارة الأمريكية 'ملتزمة بالحفاظ على أمن اتصالاتنا الدبلوماسية، وهي بصدد اتخاذ خطوات لضمان أن تظل محتفظة بسريتها' حتى 'لا تتكرر تلك الخروقات مرة أخرى'.
ليس معروفا ما إذا كان مقال السفير الأمريكي في الدوحة مبادرة شخصية أم جزءا من تحرك واسع يقوم به كل السفراء الأمريكيين في الخارج لطمأنة حكومات العالم أجمع. وفي الحالة الأخيرة ستكون بالتأكيد مهام بعض السفراء في عواصم تعرض زعماؤها لـكلمات أو تقييمات مسيئة ساخرة أصعب بكثير من غيرهم.
لقد وجهت تسريبات ويكيليكس ضربة قاسية للغاية للأمريكيين وهي أشبه بتسريب فحوى تقارير أمنية أو مضمون محادثات هاتفية سرية أو نصب كاميرات لتسجيل نقاشات في صالونات مغلقة أو حتى غرف نوم. بعد اليوم سيصبح أي مسؤول أو شخصية عامة أو حتى مجرد متزلف متبرع للأمريكيين بتحليلات وآراء، حذرا للغاية في كلامه لأنه لم يعد يضمن ألا ينشر كلامه بحرفيته يوما ما، كما أن الدبلوماسيين الأمريكيين أنفسهم قد يمارسون مستقبلا نوعا من الرقابة الذاتية في تقاريرهم السرية لأن ثقتهم في أن تظل تحت الكتمان اهتزت بقوة.
بالتأكيد سيتصرف الأمريكيون بسرعة وسيحاولون وضع حد لهذه التسريبات سواء قام بها مستقبلا موقع 'ويكيليكس' أو غيره، لكن ما لم يكن ممكنا تلافيه هو هذا الشرخ الذي تعرضت له علاقات واشنطن مع حلفاء كثيرين في أصقاع مختلفة من العالم. ومع جرأة ما تضمنته بعض الوثائق المسربة، فإنها في النهاية ليست غريبة جدا ولا صادمة لمن يعرف حقيقة ما يمكن أن يصدر عن الأمريكيين سواء تعلق الأمر بأصدقائهم أو أعدائهم على حد سواء. ولعل الميزة الأساسية في كل ما حدث هي وقوف كل من ورد ذكره في التقارير المسربة على الحقيقة العارية للأمريكيين فيه دون أية مساحيق. لعل ذلك يعيد لبعضهم بعض الوعي ويطرد عنهم أية أوهام كانت لديهم عن تقدير أو احترام أو حظوة مزعومة لهم عند أصحاب القرار في واشنطن.
وإذا كانت الولايات المتحدة قادرة على تطويق الآثار السلبية لما جرى، ولو على مراحل، بفضل جهود خاصة وبفضل استعداد المسيء إليهم للنسيان وحتى الغفران بسرعة، فإن احتمال حدوث تسريبات عربية على غرار تسريبات ويكيليكس أمر كفيل، على الضعف الكبير في حظوظه، بإشعال حروب ضروس. ولهذا فلندع جميعا إلى المحافظة على المستور، إلى أن تقرأ الأجيال المقبلة ذات يوم ما يسمح بالإطلاع عليه من تقارير ورسائل ووثائق المخابرات الأجنبية عما يدور اليوم بين ظهرانينا.