عبدالحميد الانصاري

في الوقت الذي كان وزراء داخلية مجلس التعاون الخليجي يعقدون اجتماعهم الدولي الـzwj;29 في الكويت ويناقشون سبل التنسيق وتبادل المعلومات بين الأجهزة الأمنية بهدف رصد تحركات وأنشطة التنظيمات الإرهابية وملاحقة عناصرها وتجفيف منابعها، كان دوي التفجيرات الإرهابية في بغداد على مقربة منهم ويترامى إلى مسامعهم! عاد الإرهاب أشد ضراوة ووحشية وأخذ يستهدف المباني الدينية خاصة مثل المساجد والأضرحة والكنائس بعملياته البشعة، من أبرزها مذبحة كنيسة laquo;سيدة النجاةraquo; في بغداد وراح ضحيتها أكثر من 60 قتيلاً، والتفجير الانتحاري بمسجد في بيشاور وأسقط 70 قتيلاً، استعاد الإرهاب عافيته ورجع أكثر فتكاً وأخذ يركز على المفاصل الرخوة بعد إحكام الحصار عليه وملاحقته، أخذ يطور وسائله ويبتكر طرقا جديدة للاختراق والوصول للأهداف بغية بث أكبر قدر من الترويع والذعر، إظهاراً للقوة والتحدي والمناورة والحضور وجذباً للأتباع، وكان من آخر وسائله الجديدة تفخيخ طرود الشحن الجوية، وهذا يشكل تحدياً أمنياً جديداً ويزيد القيود على حركة الناس وتنقلاتهم كما يعرقل انسيابية السلع والخدمات ويلقي بمزيد من العبء على الأجهزة الأمنية، التساؤل المطروح: لماذا عاد الإرهاب نشطاً رغم الملاحقة الأمنية الناجحة والتي أجهضت المئات من مخططاته وفككت المئات من خلاياه وقضت على الآلاف وقبضت على آلاف أخرى قدموا للمحاكمة؟! الأجهزة الأمنية بدول المجلس أثبتت كفاءة منقطعة النظير في تصديها لجماعات الشر والفساد، قضت على خطورتهم وطهرت الخليج من عملياتهم الإجرامية وحققت الأمن والاستقرار، وأصبح أمام الإرهابي خياران لا ثالث لهما: إما أن يقتل وإما أن يفر إلى دول أخرى، ويبقى أن نقول أن الأمن ndash; وحده ndash; لن يستطيع تجفيف laquo;منابع الإرهابraquo; طبقاً لما جاء في بيان وزراء الداخلية، ما لم يسانده جهد فكري وثقافي تشارك فيه جميع المؤسسات المعنية بصياغة الثقافة المجتمعية، لن يتمكن الأمن من اقتلاع laquo;جذور التطرفraquo; الغائرة في التربة المجتمعية ما دامت laquo;ينابيع التطرفraquo; تفيض وتتدفق، وهذا ما يفسّر عودة الإرهاب بصورة أكثر بشاعة وتوحشاً، لازال الإرهاب نشطاً في مناطق عديدة في ديار المسلمين رغم كل الجهود الأمنية المقدرة، لازال يجتذب إلى صفوفه شبابنا وبالذات بعض شباب الخليج واليمن ليصبحوا جنوداً ووقوداً لمخططاته الإجرامية، لا يمكن القضاء على الإرهاب وحماية شبابنا من الانزلاق إلى أحضانه إلا بالعمل الجدي على تفكيك بنية laquo;فكر التطرف والغلوraquo; التي تشكل بوابة laquo;التنظيمات الإرهابيةraquo;.
أفكار التطرف والعنف والغلو تحتل رؤوساً كثيرة في المجتمع الخليجي، ولها أبواقها ومنابرها ومواقعها الإلكترونية ومنظروها ومفتوها وشيوخها الذين يحرضون ويمجدون ويبررون laquo;تفجير الذاتraquo; طريقاً للجنة ووسيلة لحماية كرامة الأمة ورفضاً للتبعية والاستسلام! وبطبيعة الحال ليس كل متطرف إرهابياً ولكن كل إرهابي، أساسه فكر متطرف، ما هو التطرف؟ التطرف أو الغلو فكر ينشأ في العقل ndash; أولاً- كما ينشأ فيه السلام والتسامح ndash; شعار اليونسكو منذ 1945 ndash; هو فكر إقصائي استعلائي يعتقد صاحبه أنه يملك الحقيقة كاملة ولا يقبل بنسبية الحقائق السياسية والاجتماعية، ما مظاهر وسمات التطرف؟ للتطرف سمات أساسية: فرض الرأي على الآخرين وعدم القبول بهم والوصاية عليهم وإساءة الظن بالمخالفين وتأثيمهم وتكفيرهم وتخوينهم وقد ينتهي الأمر باستحلال دمهم، وهذه السمات إنما تنضح من معين واحد هو laquo;ثقافة الكراهيةraquo; التطرف آفة فكرية قديمة بدأت عند الخوارج الذين جسدوا أول تنظيم متطرف في التاريخ الإسلامي وخرجوا بسيوفهم على المجتمع الصحابي بحجة أنهم حكموا الرجال حيث لا حكم إلا لله، لكن لو اقتصر التطرف على صاحبه دون أن يتجاوز إلى التسلط على الآخرين لما كان الأمر مثاراً للاعتراض بل قد يحمل في حالات على باب الورع والتحوط ومغالبة النفس على الأشد والأصعب، لكن مشكلة المتطرفين الأساسية أنهم لا يقنعون بتطرفهم بل يريدون فرضه على الآخرين دون اعتبار لهم بل يتجاوزون ذلك إلى التشكيك في عقائدهم والتفتيش في ضمائرهم وإلصاق تهم العمالة والخيانة بهم وأنهم تغريبيون علمانيون يريدون هدم ثوابت الدين.
ومما يؤسف له أن تمنح جامعة إسلامية درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف لباحث كفر في رسالته laquo;الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرهاraquo; 200 مثقف عربي من دعاة الحداثة والعقلانية والتنوير! كيف تثمر الجهود الأمنية في استئصال فكر الإرهاب مع منح درجة الدكتوراه في التكفير من قبل مؤسسة دينية رسمية؟! عندما تزرع فكر الكراهية في نفوس طلابك تجاه المخالفين في الرأي السياسي أو التوجه الديني فإنك إنما تزرع بذرة التطرف المؤدية للعنف والمنتهية بالعمل الإرهابي، التكفير عنف شديد يشحن به نفوس غضّة لم تنل حظها من الحصانة والمناعة، وهو جناية التعليم الاحادي المغلق على طلابنا! وثاني مشاكل المتطرفين، ان الغلو لو كان مقصوراً على ثوابت الدين المتفق عليها بين المذاهب الإسلامية والسنة والشيعة لكان أمراً محموداً، لكن المتطرفين المعاصرين عامة لا يشغلهم شيئاً إلا الفرعيات والخلافيات والقشور والمظهريات، يتشددون حيث لا ينبغي أن يكون محلاً للتشدد ولا ميداناً للاحتساب، يتوسعون في الحظر والتحريم ويثيرون معارك حول أمور خلافية، يثيرون الدنيا ولا يقعدونها لأن كاتباً قال: النقاب من العادات لا من العبادات، يستفرغون جهودهم في معارك عقيمة حول تحريم حلق اللحى وتقصير الثياب والغناء والتصوير وعمل المرأة واختلاطها وعدم التشبه بالكفار وحرمة الموالد وتهنئة النصارى وإهداء الورود للمرضى!! لا يشغلهم قضايا الأمة الرئيسية: حقوق الإنسان وكرامته وقضايا الديمقراطية والحرية والشورى والعدالة الاجتماعية! لا يعنيهم جوهر الدين المتمثل في المودة والتسامح وlaquo;قولوا للناس حسناraquo; وlaquo;الدين المعاملةraquo; وقضايا التنمية والإنتاج والنهضة، فكر الغلو وثقافة الكراهية يشكلان البنية التحتية للعنف والإرهاب.
إلى الأعلى