محمد السماك

توقفت مساعي التسوية السياسية بين تركيا وإسرائيل أمام عقدتين هما الاعتذار والتعويض. فتركيا تصرّ على اعتذار إسرائيلي علنيا عن الاعتداء على السفينة التركية التي كانت تحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، كما تصرّ على تعويض ذوي الضحايا الأتراك التسعة الذين سقطوا برصاص الجيش الإسرائيلي.

ولم يسبق لإسرائيل أن اعتذرت عن أية جريمة ارتكبتها. لا جريمة بحر البقر في مصر، ولا جريمة مخيم جنين في الضفة الغربية، ولا جريمة الحرب على غزة وقصفها بالقنابل الفوسفورية المحرقة. وحتى الجريمة التي استهدفت موقعاً لقوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان في عام 1993 حيث قتل أكثر من مئة لبناني لجأوا إلى الموقع الدولي هرباً من القصف الإسرائيلي، رفضت إسرائيل الاعتذار للأمم المتحدة أو لذوي الضحايا عنها. كل ما قالته إن القصف كان خطأ.

ولم يسبق لإسرائيل أن وافقت من حيث المبدأ على التعويض لأي من ضحاياها، سواء في فلسطين المحتلة، أو لبنان؛ فالاعتذار يعني أن إسرائيل لم تكن على حق. وهي تعتقد أنها دائماً على حق.. ولكن تحدث أخطاء.. وكذلك فإن التعويض يعني الإقرار بأنها ألحقت ظلماً بالآخرين. وهي تعتقد أنها دائماً مظلومة.

وفي الواقع فإن إسرائيل قامت، على أساس اعتذار المجتمع الدولي عن الجرائم العنصرية التي ارتكبت بحق اليهود في أوروبا، وخاصة على أيدي النازيين. وهي تعيش على التعويضات التي حصلت ولا تزال تحصل عليها منذ إقامتها في عام 1948 حتى اليوم. فقد دفعت الحكومة الألمانية التي أقرت بمسؤوليتها المعنوية تعويضات لإسرائيل عن جرائم النازية بلغت 60 مليار دولار. وإضافة إلى ذلك فُرض على 65 شركة ألمانية دفع مبلغ آخر قدره 5.2 مليار دولار لتعويض اليهود الذين عملوا في هذه الشركات بأقل من الأجر الذي كانوا يستحقونه! كما فُرض على سويسرا -التي التزمت بالحياد خلال الحرب- دفع مبلغ 1.250 مليار دولار للتعويض على أصحاب الودائع المصرفية من اليهود الذين قتلوا أثناء الحرب وبقيت ودائعهم مجمدة في مصارفها.

وفي السنوات الأخيرة تأسست هيئة دولية بإشراف مباشر من الولايات المتحدة وبضغط منها لإعداد ملف آخر خاص بشركات التأمين الأوروبية لحملها على دفع تعويضات للورثة اليهود من أصحاب عقود التأمين التي أجريت قبل الحرب. وقد ترأس هذه الهيئة quot;لورنس إيغلبرغرquot; نائب وزير الخارجية الأميركية في عهد الرئيس بوش الأب براتب شهري قدره 30 ألف دولار. وقد طالبت هذه الهيئة الجديدة شركات التأمين الأوروبية بالتعويض لورثة حوالي 500 ألف يهودي، بعضهم لا يملك أية وثيقة ولا يعرف حتى اسم شركة التأمين. وكل ما يعرفه أن والده، أو خاله، أو جده، كان مؤمَّناً لدى شركة ما. وتقرّر أن يدفع لكل واحد من أصحاب هذه الادعاءات -وعددهم 90 ألفاً- تعويض رمزي بقيمة 12 ألف دولار. أما الآخرون الذين يقدمون أي وثيقة تثبت وجود عقد سابق فسيحصلون على تعويضات قد تصل في مجموعها حسب تقدير الهيئة إلى 10 مليارات دولار.

وكان من الطبيعي أن ترفض شركات التأمين الأوروبية هذا quot;الابتزازquot;، إلا أن الإدارة الأميركية هددتها بوضع اليد على مصالحها داخل الولايات المتحدة إذا رفضت الاستجابة لطلبات التعويض، حتى أن ولاية كاليفورنيا مثلاً وضعت قانوناً يفرض على شركات التأمين الأوروبية نشر لوائح بأسماء كل أصحاب عقود التأمين المعقودة معها خلال الفترة بين عامي 1920 و1945. ولكن ما أن أصدر مجلس القضاء الأميركي الأعلى قراراً باعتبار هذا القانون غير دستوري، حتى بدأ الالتفاف عليه من خلال مشروعين طُرحا أمام الكونجرس. وبموجب هذين المشروعين تلتزم الولايات المتحدة في سياستها الخارجية بحمل الدول التي تنتمي إليها هذه الشركات على الخضوع لطلبات دفع التعويضات -من دون اللجوء إلى المحاكم القضائية سواء في أوروبا أو حتى في الولايات المتحدة نفسها.

أما إسرائيل فلم تدفع أي تعويض لحوالي مليون فلسطيني هجروا من بلادهم في عام 1948 وصودرت بيوتهم ومتاجرهم ومزارعهم وعقاراتهم. وهي تواصل عملية التهجير المبرمجة في القدس وفي الأراضي المحتلة الأخرى حيث تقيم المستوطنات فوق أراضٍ فلسطينية مصادرة.

وترفض إسرائيل من حيث المبدأ قرار مجلس الأمن الدولي 194 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم أو التعويض على من لا يرغب في العودة. فبالنسبة إليها لا عودة ولا تعويض بل إن ما تطالب به هو التعويض لليهود العرب الذين هاجروا من دولهم العربية وتوجهوا إلى إسرائيل في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي. وقد شكلت إسرائيل هيئة لتخمين قيمة هذه الممتلكات تمهيداً لمطالبة الدول العربية بتسديدها.. فإذا بالأرقام تتضخم بحيث أصبحت أكبر من قيمة الممتلكات الفلسطينية كلها!

وتعرف إسرائيل أن الدول العربية لن توافق على التعويض، ولكنها تعرف أيضاً كيف تستخدم العصا الأميركية على النحو الذي فعلته مع مصارف وشركات التأمين في الدول الأوروبية.

ومن هنا فإذا استجابت إسرائيل لطلب تركيا بالاعتذار والتعويض فإنها تكون بذلك قد انقلبت على نفسها رأساً على عقب. فالاعتذار عن القرصنة البحرية التي ارتكبتها في المياه الدولية ضد السفينة التركية يشكل سابقة ستحملها على الاعتذار على أعمال قرصنة عديدة أخرى قامت وما زالت تقوم بها في البحر والجو. ألم تسقط طائرة ركاب مدنية ليبية فوق صحراء سيناء؟ ألم تدمر الأسطول الجوي المدني اللبناني وهو جاثم في مطار بيروت في عام 1968؟ ألم تفرض الحصار الجوي والبحري على لبنان في عام 2006؟ ألم تقصف منشآت تحويل مياه نهري الوزاني والحاصباني في عام 1964 في جنوب لبنان؟ ألم تدمر الطرق والجسور من أقصى شمال لبنان حتى أقصى جنوبه بحجة قطع الطريق أمام إمداد المقاومة بالأسلحة والمعدات في عام 2006؟

وكذلك فإن التعويض للضحايا الأتراك التسعة يشكل سابقة ستحمل إسرائيل على التعويض على الآلاف بل مئات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين والعرب الآخرين الذين قتلتهم منذ عام 1948 وحتى اليوم. ولذلك فإن إسرائيل تضحي بالتسوية مع تركيا وبحاجتها الاستراتيجية لإعادة العلاقات معها إلى ما كانت عليه، لتجنّب تثبيت أي من السابقتين: الاعتذار والتعويض.

فإسرائيل تحتاج إلى أن تظهر باستمرار بمظهر الدولة التي يجب أن يعتذر لها الآخرون لما ارتكبوه في السابق بحق اليهود. وهذه أداة من أدوات الابتزاز للمجتمع الدولي الذي يخشى من توجيه أي انتقاد للسياسة الإسرائيلية حتى لا يوصف الانتقاد بأنه quot;لا سامية جديدةquot;.

وتحتاج إسرائيل أيضاً إلى أن تظهر بمظهر الدولة التي يجب أن يقدم لها المجتمع الدولي التعويضات المالية باستمرار. حتى إذا استنفذ مصدر ما، يجري اختراع مصدر جديد. ويتناقض ذلك مع مبدأ موافقتها على أن تدفع هي التعويض لضحاياها.

ومن أجل ذلك تتعثر محاولات التسوية التي قامت وتقوم بها الولايات المتحدة بين إسرائيل وتركيا. فالمصلحة الاستراتيجية الأميركية تقتضي عودة المياه إلى مجاريها بين أنقرة وتل أبيب. ولكن الكرامة التركية لا تقبل بما هو أقل من الاعتذار والتعويض.. والمصلحة الإسرائيلية لا تتحمل من حيث المبدأ لا الاعتذار ولا التعويض!