محمد السعيد ادريس

بقدر ما أثار كشف أجهزة الأمن المصرية فضيحة خليتي التجسس ldquo;الإسرائيليتينrdquo; من استنكار مصري رسمي وشعبي طرح دهشة وتساؤلات حول حقيقة النوايا ldquo;الإسرائيليةrdquo; نحو مصر ومشروع السلام الذي يربط البلدين . وعلى الرغم من كل الاستنكار الذي عبّر عن نفسه بوسائل متعددة لتورط أجهزة الاستخبارات ldquo;الإسرائيليةrdquo; في جرائم تخابر ضد ما يعتبره ldquo;الإسرائيليونrdquo; ldquo;الدولة المركزية في مشروع السلام ldquo;الإسرائيليrdquo;rdquo; ويقصدون مصر، فإن هذا الاستنكار لم يصل إلى المستوى الذي كان يجب أن يصل إليه على المستويين الرسمي والشعبي وبالتحديد فتح ملف اتفاقية السلام المصرية - ldquo;الإسرائيليةrdquo; الموقعة عام 1979 والمعروفة إعلامياً باسم ldquo;اتفاقية كامب ديفيدrdquo;، بل انه لم يصل إلى الحد الأدنى من المراجعة للعلاقات المصرية - ldquo;الإسرائيليةrdquo;، والموقف المصري من عملية التسوية والتزام القاهرة الذي لا يتزحزح في التعامل مع ldquo;السلامrdquo; كخيار استراتيجي لا بديل عنه، رغم كل التداعي بل والفشل الذي يواجه ذلك السلام بعد تخلي واشنطن عن التزامها نحو ما فرضته على العرب قسراً من مفاوضات مباشرة فلسطينية - ldquo;إسرائيليةrdquo; بسبب عدم رغبتها في ممارسة ضغوط جادة على ldquo;إسرائيلrdquo; للقبول بتجميد الاستيطان لمدة 90 يوماً فقط كشرط لاستمرار هذه المفاوضات، ووصول العملية كلها إلى طريق مسدود، وتمادي واشنطن في الانحياز لدولة الكيان بالتصدي لأي مشروع في مجلس الأمن يطالب بوقف سياسة الاستيطان والتصدي أيضاً لتوجه العديد من الدول للاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 والإصرار الأمريكي على فرض التفاوض الفلسطيني - ldquo;الإسرائيليrdquo; غير المشروط وغير الملتزم بمرجعية سياسية محددة وأفق زمني واضح إطاراً وحيداً لعملية التسوية .

فالموقف الشعبي المصري وبالذات أحزاب المعارضة الرسمية وحتى حركات الاحتجاج والتغيير مشغولة كلها بقضية واحدة هي قضية الديمقراطية والإصلاح السياسي، وفي ظل هذا الاستغراق الكامل في قضية واحدة يغيب الموقف الشعبي عن قضايا استراتيجية وحيوية أخرى شديدة الخطورة من بينها العلاقة مع ldquo;إسرائيلrdquo; على الرغم من تطورات كثيرة وخطيرة جرى الكشف عنها في الآونة الأخيرة تؤكد جدية العداء ldquo;الإسرائيليrdquo; لمصر حاضراً ومستقبلاً . أما الموقف الرسمي فيبدو أنه سيبقى في حدود القضاء وتحويل المتهمين في قضيتي التجسس إلى العدالة من دون موقف سياسي واضح وصريح ومعلن من السلام ldquo;الإسرائيليrdquo; الكاذب أو ldquo;المراوغrdquo; مع مصر، ورغم أن التجسس هذه المرة أخذ أبعاداً جديدة حيث كان الهدف هذه المرة هو شركات الهاتف المحمول فضلاً عن شركة الهاتف الثابت في مصر ومنها أمكن الوصول إلى أدق تفاصيل الأوضاع والتطورات في مصر، ولم تفلت السفارات الأجنبية في القاهرة من التجسس عليها عبر اختراق هواتفها المحمولة والثابتة وعلى رأسها السفارات الأمريكية والبريطانية والفرنسية ومقر جامعة الدول العربية وأمينها العام .

الأسئلة التي تثار بهذا الخصوص كثيرة لعل أبرزها ما الذي يدفع ldquo;إسرائيلrdquo; للتجسس على مصر التي تعتبرها ldquo;الشريك الأهمrdquo; في مشروع السلام؟ ورغم أن الإجابات قد تتعدد بين من يرى أن التجسس يعد أحد ثوابت السياسة ldquo;الإسرائيليةrdquo; . فالكيان يتجسس على أهم حلفائه وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، ما يعني أن التجسس قد أضحى أحد معالم دولة الكيان ونظامه نظراً لشعوره الدائم بالتهديد، وحرصه على تأمين نفسه ووجوده وعلاقاته وتشككه في كل شيء . لكن الأمر بالنسبة لمصر يبقى مختلفاً فالأرجح أن ldquo;الإسرائيليينrdquo; ليسوا على ثقة في إمكانية استمرار التزام مصر باتفاقية السلام، وان هذه الاتفاقية ستبقى طارئة واستثنائية بالنسبة لمصر، وهذا ما يفرض على ldquo;الإسرائيليينrdquo; الحذر الدائم من أي تحول في أوضاع مصر الداخلية قد ينعكس سلباً على التزامات مصر بهذه الاتفاقية غير العادلة والمجحفة بحقوق مصر الوطنية والقومية، لكن ما هو أهم من هذا كله أن ldquo;الإسرائيليينrdquo; لم يكتفوا ولن يكتفوا بتوقيع اتفاقية السلام مع مصر، فهم أيضاً يعتبرون أن هذه الاتفاقية مرحلية وأن مطامعهم ومشروعهم مع مصر يتجاوز كثيراً هذه الاتفاقية .

فالانسحاب ldquo;الإسرائيليrdquo; من سيناء، ورغم كل الشروط والقيود التي وضعت على السيادة المصرية بموجب اتفاقية السلام تلك، كان انسحاباً مؤقتاً واضطرارياً حسب اعترافات مناحيم بيجن رئيس الحكومة الصهيونية الذي وقع هذه الاتفاقية عام 1979 مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات . فقد برر بيجن قبول الانسحاب من سيناء بقوله: ldquo;سنضطر إلى الانسحاب من سيناء لعدم توافر طاقة بشرية قادرة على الاحتفاظ بهذه المساحة المترامية الأطراف، فسيناء تحتاج إلى ثلاثة ملايين يهودي على الأقل لاستيطانها والدفاع عنها، وعندما يهاجر مثل هذا العدد من الاتحاد السوفييتي أو الأمريكتين إلى ldquo;إسرائيلrdquo; سنعود إليها وستجدونها في حوزتناrdquo; .

وسواء كانت نوايا التوسع الاستيطاني ldquo;الإسرائيليrdquo; تمتد إلى مصر أم لا، فإن أكثر ما يهم ويشغل ldquo;الإسرائيليينrdquo; في علاقاتهم مع مصر هو الحيلولة دون تمكينها من العودة مجدداً لقيادة مشروع التحدي للوجود ldquo;الإسرائيليrdquo;، ومن هنا بالتحديد تتأكد أهمية وضرورة أنشطة التجسس على مصر، وهي أنشطة متنوعة تتجاوز الأطر التقليدية للتجسس وجمع المعلومات وتمتد إلى مجالات متعددة ومتنوعة تمكنها من التغلغل إلى عمق المجتمع والدولة وخلق تحالفات وعلاقات يجري تسخيرها لخدمة هدف إخضاع مصر كلياً وتأمين خطرها .

اعترافات عاموس يادلين رئيس الاستخبارات العسكرية ldquo;الإسرائيليةrdquo; السابق منذ ثلاثة أشهر تقريباً، وقبله اعترافات آفي ديختر رئيس ldquo;الشاباكrdquo; (الأمن الداخلي) الأسبق مجرد علامات تكشف ما يقوم به ldquo;الإسرائيليونrdquo; في عمق مصر لإخضاعها والحيلولة دون تمكينها من امتلاك القدرة على التحدي والمواجهة .

فإذا كان عاموس يادلين قد اعترف بأن مصر هي ldquo;الملعب الأكبرrdquo; للأنشطة ldquo;الإسرائيليةrdquo; التي تتجاوز حدود التجسس التقليدي، كما اعترف بأنهم أحدثوا اختراقات في أكثر من موقع وأنهم نجحوا في تأجيج الاحتقان الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة مؤثرة دائماً هدفها تعميق حالة الاهتراء داخل بنية المجتمع والدولة كي يعجز أي نظام يأتي بعد الرئيس حسني مبارك عن ترميم الانكسار الداخلي فإن آفي ديختر اعترف بما هو أخطر، فقد أكد في إحدى محاضراته عام 2008 أن وجود ldquo;إسرائيلrdquo; قوي في مصر وأن هذا الوجود يعتمد بصفة أساسية على الشركاء من رجال الأعمال والأصدقاء من الإعلاميين المصريين . ووصل به التبجح إلى القول إن ldquo;إسرائيلrdquo; ستكون ldquo;شريكةrdquo; في اختيار الرئيس المقبل في مصر وأنها لن تسمح بمجيء رئيس لا يعلن مسبقاً التزامه باتفاقية السلام .

هل بعد ذلك كله تبقى دهشة أو حتى استغراب من كشف خلية أو عشر خلايا للتجسس على مصر بعد أن أصبح التجسس هو قاعدة السلام معها؟