سمير عطاالله


quot;لو قدّر والتقينا شكسبير اليوم، فلن يكون شعور بالنقص امامه. فنحن نملك الحقائق نفسها والاشياء نفسها، لكنه يتمتع بقدرة خارقة على التوليف والتصنيفquot;.
امرسون

لا مفرّ، الصحف المحترمة حول العالم، بما فيها quot;الموندquot; اختارت جوليان أسانج شخصية العام. كي نعرف معنى ذلك، يجب ان نتذكر ان الذين مُنحوا لقب شخصية العام على غلاف quot;تايمquot;، كانوا شيئاً من روزفلت او آيزنهاور او الرجال الذين نزلوا على سطح القمر. هذه علامة من علامات تغيّر العصور: quot;البطلquot; هنا ليس هو الذي يربح الحرب، او يقوم بالرحلة الى كوكب آخر، وانما هو الخُلد الذي يحفر في خزائن الديبلوماسية الاميركية، وينشر على الملأ ما كانت تعتقد انه سوف يبقى سرها الى الابد.
هل الافشاء عمل اخلاقي، ام هو رديف النمّة نفسها، التي اعتبرها القرآن قمة الفسق: اذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا؟ الحقيقة ان ما اقدم عليه جوليان أسانج، ومن معه، ومن خلفه، يظل عملاً ثانوياً. اما القضية فهي في الاسلوب الديبلوماسي نفسه: هل الديبلوماسية ان تطلع الخارجية الاميركية من سفيرها على تنقلات الممرضة الاوكرانية التي ترافق العقيد معمر القذافي، ام ان تتأكد ndash; مثلاً - من ان الممرضات البلغاريات ادخلن السجن ظلماً في ليبيا بتهمة حقن المرضى بالايدز؟ هل الديبلوماسية، ان تعرف واشنطن من سفارتها في الخرطوم مستقبل وحدة البلاد، ام عدد المدعوين الى عرس عمر البشير على ارملة وزير دفاعه، التي كانت في السادسة والعشرين يوم ذلك الحفل الكبير؟
طلبت quot;الانسيكلوبيديا بريتانيكاquot; من شارل مالك ان يضع لها تعريف الديبلوماسية، فوضع مطالعة من 25 ألف كلمة. عندما نتحدث عن العمل الديبلوماسي، يخطر لنا رجال مثل تاليران، الذي لمعت السياسة الخارجية الفرنسية يوم كانت بين يديه (ايام نابوليون وايضاً لويس الثامن عشر) والذي كتب فيكتور هوغو قصيدة تروي انه بحث عن دماغ تاليران من اجل ان تعرف البشرية سر العبقرية والعباقرة. او يخطر لنا جورج كينان، الاميركي الذي عاش زهاء قرن، ووضع نظرية quot;الاحتواءquot; حيال السوفيات، بدل المواجهة. او مترنيخ. او اندريه غروميكو. او الدكتور محمود فوزي في مصر. او دزرائيللي. او داغ هامرشولد، في الامم المتحدة.
اي الرجال الذين جعلوا الديبلوماسية بديلاً من الحرب، والحوار بديلاً من الويلات، والاتفاق بديلاً من القتل والموت والخراب. عندما التقيت الراحل الكبير فيليب تقلا في الامم المتحدة قبل يوم واحد من لقائه هنري كيسينجر عام 1975، سألته: quot;هل هي طويلة؟quot;، وابتسم من خلف ألف عام من الديبلوماسية والمعرفة وقال: quot;أَعِدْ عليّ السؤال غداً، بعد ان التقي هنري كيسينجر، طبعاً، لن يجيب بلا او نعم. لكنني سوف اخبرك بما قرأت وهو يتلعثم بين الاثنتينquot;. وفي اليوم التالي ذهبت الى العشاء مع فيليب تقلا في مطعم صيني. لم أسأله ماذا فهم من اللقاء مع كيسينجر، ولا هو اخبرني. كانت المعارك الدائرة في بيروت ذلك النهار أصدق إنباء من الكتب. الحرب آتية والديبلوماسية آفلة.
الديبلوماسية اللبنانية ليست، بداهة، الديبلوماسية الاميركية. هذه تدير حروب العالم، وقلما تدير او تدبّر سلامه، وتلك اعتادت بكل ذل واستسلام وخيانات كبرى وصغرى، ان تتقبل على ارضها جميع حروب الارض ومجموع مصالحها وكل تناقضاتها. كان همّ الديبلوماسية اللبنانية، مع رجال امثال فيليب تقلا وفؤاد نفاع وفؤاد بطرس وغسان تويني وفؤاد شهاب وريمون اده، تحصين الفجع السياسي اللبناني ضد الانمراغ السريع والمطلق، في اهواء الآخرين. لذلك غادر فيليب تقلا لبنان دون عودة الى مكتبه في قصر بسترس، عندما شاهد جثة اولى ملقاة في الشارع في فردان.
سألته، بعد أكثر من عقد، على الغداء في quot;نيسquot;، عام 1988، كيف يجوز ان تغادر البلد من غير ان تبلغ رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. وابتسم من خلف نظارتيه وخلف ألف عام من الديبلوماسية والسياسة والمعرفة، وقال: quot;لو اعلنت استقالتي لحدثت ثلاثة امور، البلد في غنى عنها: الاول، الفزع الذي سيدبّ في قلوب الناس، اذ يسمعون ان وزير الخارجية استقال. الثاني، المرارة التي سيشعر بها رئيس الجمهورية بأنني تخليت عنه. الثالث، الخذلان الذي ستشعر به عائلتي: كيف يمكن فرداً منها ان يعلن يأسه من لبنانquot;.
قامت الديبلوماسية بديلاً من البشاعات، كالخنادق والمتاريس والمقابر الجماعية والقنابل الذرية والاغتيالات وقنص الناس في الطرق، او مثل صيد المتوحشين، العصافير والطيور العابرة. لذلك عندما نشر جوليان أسانج الصيف الماضي 90 ألف برقية (وليس وثيقة كما تسمى خطأ) عن حرب افغانستان، قال ان افشاء الاسرار افضل بكثير من شن الحروب.
رأى بعض الرومانسيين فيه حالماً آخر من حالمي السلم العالمي. وتصوّره آخرون مثل جون لينون، مغني فرقة البيتلز، الذي اعتبره مدير quot;الاف بي آيquot; السيئ الشهرة، ادغار هوفر، خطراً على الامن القومي. وتحدث مثل هذه الهلوسات في التاريخ، عندما تكون الامم في قبضتين: الاولى، قبضة الخوف من نتائج ما فعلت وما تفعل، والثانية عندما تكون في قبضة رجال مثل ادغار هوفر، هاجسه الحقيقي ليس بقاء الامة بل بقاؤه الشخصي في موقع السطوة وذر الرعب والخوف العام، ومن ثم التلذذ الفرويدي السادي بذلك. ليس هناك مثل فيليب تقلا، مَن اسأله رأيه في جوليان أسانج. لكنني اعتقد انه لا يمكن ان يكون هذا الاوسترالي الشاب، فرداً او جماعة صغيرة. لا يمكن ان يكون الحصول على ربع مليون برقية ديبلوماسية سرية، عمل هواة وشطار ورومانسيين معارضين لحروب اميركا او سياساتها الخارجية. يجب الا يمنعنا اعجابنا بمعارضة اسانج لحرب أفغانستان والعراق، من التساؤل عن هوية الجهة الاميركية التي أمدّته بالمادة، كما أمدّت من قبل الذين نشروا صور سجن ابو غريب.
ثمة ضمائر تفيق مبكراً وضمائر تفيق متأخرة كئيبة من تحت اكداس الموت والجثث طالبة الغفران بالاعتراف العلني، بدل الاعتراف خلف شبكة مظلمة في كرسي كنسي محدوف. إما ان هؤلاء يقفون خلف اسانج، او بالعكس، مجموعة كانت تريد للحروب اكثر سحقاً وانتصارات. ولكن في كل الحالات، جوليان اسانج، قناع يشبه quot;الطمطمquot; الذي تخيلته العرب يتحدث لغة ذات طبقات كثيرة وغير مفهومة.
لذلك قرأت الدول quot;وثائق ويكيليكسquot; وفقاً لموقفها منها، فحيث هي دينت استنكرت، وحيث دين سواها خرجت تصفق. وكان ذلك يحدث في مطبوعات الابتزاز: فريق يرى ما تنشره عن خصومه وثائق دامغة. وعندما يتحوّل هو الى ضحية، يتهمها بتلفيق كل ما كتبت.
جزء من الديبلوماسية، يقوم على جمع المعلومات وتحليلها. وهذا الجزء لا يقر بالقواعد والافكار النبيلة: عندما ذهب ليونيد بريجنيف في زيارة رسمية الى فرنسا ايام فاليري جيسكار ndash; ديستان، كان معه فريق مهمته ان يخفي جميع آثار العلاجات التي يتناولها وآثار دخوله الحمام، لئلا يستغل الغرب اخبار مرضه. وصارت فرنسا تمارس الحذر نفسه عندما دب المرض في فرنسوا ميتران، فلا يترك في غرفته خلال الزيارات الرسمية اي اثر لأي شيء. بما فيه القطن.
لكن المهمة الاولى للديبلوماسية، ليست ملاحقة ممرضة العقيد القذافي. هناك اقمار اصطناعية، وناصتات الكترونية، وآلات تصوير، وهناك عشرات ألوف المخبرين، مكلفين وطنياً او نمامين متطوعين. وفيما يقوم العالم الثالث ndash; ويسقط ndash; على الشائعة، يقوم العالم الأكثر تمرساً على التدقيق فيها. لا تكتفي الآية بطلب التبيّن من نميمة الفاسقين بل تطلب التثبّت أيضاً.
يمكن القبول بجوليان اسانج شخصية العام، بمعنى انه رمز لنهاية العقد الاول من الالفية الثالثة. رمز لعصر التسريبات التي لا حدود لها وطوفان المعلومات، كما يقول الزميل مشاري الذايدي في quot;الشرق الاوسطquot;. لقد عاد العالم الى زمن العراء وغياب حتى الجدران التي كان لها آذان. إلا اسرار ولا حصانات ولا شيفرة إلا شيفرة دافنشي التي فككها دان براون بالحصول على ثروة نادرة في عالم التأليف والتوليف.
في نهاية المطاف مارس اسانج مهنة التجسس المعلن على مهنة التجسس الخفي. وبكل ظرفه وقوته فعل احمد فارس الشدياق ذلك قبل قرنين في quot;الجاسوس على القاموسquot;. ولكن لا علاقة لثورة ويكيليكس بأمور اللغة. نحن هنا اقرب الى quot;كشف المخبّأ في ما هو اسرار اوروباquot;. الشدياق ايضاً، حفظك الله.