إبراهيم أحمد
الذين يطالبون بإلقاء ايديولوجية البعث: على المزبلة محقون، وينبغي الوقوف بجانبهم ومساعدتهم على تنفيذ ذلك وبأسرع وقت، فهذه المبادئ والأفكار والمفاهيم العنصرية والفاشية والدموية والجنونية التي صنع على أساسها البعث الكوارث والمصائب للعراقيين لا تستحق مكاناً آخر، ولكن ينبغي أن يكون هؤلاء المطالبون بسحق ايديولوجية شريرة، مستعدين أن يلقوا على المزابل أيضاً كل ما لديهم من الأفكار والمفاهيم الظلامية والمتعصبة والجنونية والمتطرفة والتي صنعت أو يمكن أن تصنع الشرور، والمزيد من النكبات والكوارث للعراقيين!
ينبغي على كثير من العراقيين أن يسلموا رؤوسهم لحلاقين أو مضمدين يلتقطون منه بملاقطهم الفولاذية القمل والقراد البعثي المشبع بدمهم والذي كان يرعى فوقها وداخلها خمسة وثلاثين عاماً، مسبحاً للقومية والوحدة والحرية والاشتراكية يشمونها كما يشم الجوعى رائحة الكباب والتكة والبصل دون أن يذوقوا شيئاً منهم، فهم لم يذوقوا شيئاً من الحرية يوماً، أما الوحدة والاشتراكية فقد بقيتا مكبوستين طرشي أمجادٍ للمستقبل!
ولكن بنفس الوقت ينبغي ويجب على هؤلاء الحلاقين والمضمدين المتصدين للقمل والقراد البعثي أن ينظفوا رؤوسهم من قمل وقراد التعصب الديني والطائفي والقومي، وأن يرتدوا ثيابا بيضاء نظيفة غير مشوبة بالدماء أو شهوات الفساد!
كان الشاعر صادقاً حين قال: لا تنه عن خلق وتأتي مثله.... عار عليك إذا فعلت عظيم! ولكن معلمي المدارس المساكين ماتوا فقراً أو كمداً ولم يشهدوا زمناً صار فيه تلامذتهم الكسالى والمهملون والذين يحتقرون الشعر، والثقافة، مدراء أو وزراء وقادة أحزاب، ووزراء للشعر والثقافة!
قلت سابقاً يصعب كثيراً الدفاع عن حزب البعث وفكره! يكفي جدلاً، أنه هو الذي أوصل البلد إلى الاحتلال بعد أن تسبب بموت أكثر من مليوني عراقي، وعذاب وتشريد الملايين، وكان الدينار عند استلامه السلطة عام 1968 يساوي أكثر من ثلاثة دولارات، وحين ولى الأدبار أمام دبابات الأميركان في نيسان 2003 كان الدولار الواحد يساوي أكثر من ثلاثة آلاف دينار!
حزب كهذا لا يمكن أن تكون ايديولوجيته حكيمة وعلمية وعاقلة بل هي الطيش والرعونة ذاتهما، وهراء القول ان تطبيقها كان عكس حقيقتها. فهي أصلاً ولدت فاسدة من رحم الأفكار القومية الأوروبية المعادية للفكر الإنساني، والتي أنجبت في أوروبا نازية هتلر وفاشية موسليني! والحرب العالمية الثانية، التي ذهب ضحيتها مئات الملايين من البشر! وحتى علمانية هذا الحزب، التي يفاخر بها بقاياه، لم تكن علمانية، فالبعث لم يربط الدولة بالدين أو بالإله السماوي بل ربطها بإله آخر، هو صدام حين قام بتأليهه وتقديسه ومنحه كل أسماء الله الحسنى! وجعل مزاجه الدموي المرجع الأعلى للدولة، وأحل أقواله ديناً مقدساً، وعشيرته وعائلته حواريين وملائكة، ألغى بهم قاعدته الحزبية الواسعة التي جمعها كقطعان الماشية بالإكراه والإغراء!
ولكن أن تحصر الأفكار الشريرة بأيديولوجية البعث فقط، تلك كارثة أخرى!
الذين يعتقدون أن الأفكار السوداء، والشعارات الشريرة موجودة فقط في كتب وكراريس البعث، وإذا حرقوها صار العراق نظيفاً تماماً، هم لا يختلفون عن السحرة والمشعوذين الذين يحرقون أمام المريض صورة الوحش ويوهمونه أنهم قد صرعوا الوحش والمرض نفسه!
لا يا سادة : الأفكار الشريرة والفاسدة والمتخلفة صارت تهب اليوم على العراقيين من كل الجهات، حتى من نافذة الحمام الصغيرة في بيوتهم، وكلما اغتسلوا تلوثت أجسادهم وعقولهم ونفوسهم من جديد!
فالذين يتصدون لفكر البعث ليس لديهم فكر يستوعب قضايا الواقع وحاجاته وتطلعات الناس!
بل ليس لديهم تماسك فكري واضح، بل جملة أمزجة وخرافات وأساطير وشعارات ومبهمات وتهويمات ذهنية تدغدغ المشاعر، ولا تضيء العقول أو ترسم بشكل علمي مشاريع بناء وتغيير!
الأيديولوجية كمنظومة أفكار ومبادئ وقيم مترابطة في نسق مدروس ومنسجم وواضح وتفضي إلى أهداف محددة ليست أمراً سيئاً، بل هي حسنة إذا حددت وقامت على أسس صحيحة، وقد عرفت في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر، وفي فرنسا أولاً، كحاجة فكرية ضرورية لتغيير حياة الناس بالعلم والفكر ودحر الجهل والغيبيات واوهام رجال الدين، ولتحقيق العقلانية والقوانين العادلة!
الأيديولوجية سيمفونية أفكار تقابل سيمفونية الأنغام إذا كانت إنسانية ومرنة ومفتوحة ومؤقتة ونسبية وغير ثابتة ومطلقة! وهي تصير سيئة حين تكون مغلقة متحجرة ودائمة وتدعو للشر والعدوان كما في النازية والفاشية ولا تقابلها في الأنغام سوى المارشات العسكرية والأناشيد الحربية الإنقلابية الرهيبة!
إذا حكمت شعبا ما أيديولوجية عدوانية متحجرة مغلقة يكون قد سار على طريق النكبات والآلام، ولكن أن تختلط فوق رأسه أشكال وألوان من الأيديولوجيات أو النزعات الفكرية والسياسية لا تعي نفسها ولا تعرف ماهيتها ولا حدودها أو طبيعتها أو كنهها أو مصادرها، وتتصارع عليه تصارع الضواري فتلك هي المأساة، وتلك هي الطامة الكبرى!
لم تقدم للشعب العراقي حتى الآن ايديولوجية أو ايديولوجيات للخيار، تضعه على طريق العلم والعقلانية والحرية والقانون العادل لتكون هي طاردة وبشكل طبيعي وتلقائي لايديولوجية البعث التدميرية!
ولم تقدم له ثقافة إنسانية رحبة متفتحة تؤكد قيم الحب والخير والجمال لتكون البلسم الشافي لروحه من جراحات وأوجاع ثقافة الكراهية والشكوك والحروب والقمع والاستبداد البعثي!
كل النظم الفكرية للأحزاب القوية الحاكمة أو ذات النفوذ أو الحضور القوي بين الناس لايزال يعشش فيها جهل وتجهيل وظلامية وتعصب ونزعات تحريم وتكفير وإلغاء للآخر، وعداء للعلم والعلمانية، واعتماد الخرافة والأسطورة مرجعية عليا للقرار والرأي وتحديد المسارات والمصائر!
ثمة نص في الدستور يقول: يحظر كل كيان يتبنى العنصرية والإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له وبخاصة حزب البعث الصدامي في العراق ورموزه وتحت أي مسمى كان ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق وينظم ذلك بقانون!
هكذا يقول الدستور، ولكن ماذا يقول الواقع؟
إنه يقول: إن التكفير والتحريم وإلغاء الآخر، جار وبقوة وتقوم به قطعان مسعورة تحت عباءات وشعارات دينية طائفية مقدسة مبجلة!
كان فكر البعث يعسكر المجتمع والاقتصاد والثقافة وكل شيء لشعاراته المزيفة الغامضة المريضة، واليوم يعسكر المجتمع والاقتصاد وما تبقى من ثقافة لشعارات حزبية دينية طائفية وقومية متعصبة شرهة، اشد غموضاً وطافحة بالأوهام والوعود الخلابة التي لم يتحقق منها شيء!
كانت في العهد الساقط تخرج مظاهرات صاخبة معربدة تهتف للقائد الأعظم، واليوم يزج الناس بحشود هائلة يقطعون بها الشوارع والساحات، ويعطلون الدولة والعمل والإنتاج، ويستنزفون مال الشعب العام (أموال أديان وطوائف مختلفة)، ممارسات محيرة تتكرر مئات المرات في العام، ظاهرها ديني عبادي وباطنها سياسي تعبوي تحريضي واستئثاري!
وحين تسأل عن مادة الدستور التي تمنع الثقافة غير الديمقراطية، يهربون مختبئين خلف مادة أخرى في الدستور تقول: لا يجوز تشريع قوانين تناقض الديمقراطية، كما لا يجوز تشريع قوانين تخالف تعاليم الإسلام!
وهكذا نرى أن الدستور نفسه بحاجة إلى مراجعة جذرية إذا أردنا تكوين ايديولوجية جديدة لعهد جديد!.
رائع أن تعملوا على تخليص الناس من فكر البعث، ولكن فكروا بالبديل الصحيح الضروري الذي يحتاجه العراقيون حاجة الأرض العطشى للماء غير الملوث، والبذور غير الفاسدة!
رغم أن حرق الكتب أمر سيئ، فالورق يظل بريئاً لا ذنب له بما خط الإنسان عليه، لكن كثيرين سيهللون لحرق كتب: (في سبيل البعث) لميشيل عفلق، ( خطب القائد الضرورة) أو (جذور الفكر الاشتراكي) للياس فرح أو (علم الجمال البعثي) لمجموعة من أدباء البعث (بعضهم ارتدى اليوم عباءة الطائفية) وأطنان من أشرطة الأغاني وقصائد المديح والأفلام والصور الرديئة، ولكن هؤلاء المهللين سيرفضون أن يقدم لهم بديلً عنها: كتاب (نسائم العريش في علم الدراويش) أو كتاب (درر التنوير في اللطم والتطبير) أو كراس ( هلاك الرعية في العلم والعلمانية) أو كراس ( حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية) أو خارطة كردستان الكبرى ممتدة من زاخو إلى الفاو! من يريد الخلاص من ايديولوجية شريرة عليه أن يحضر وبإخلاص وصدق بديلاً لها: فكراً عميقاً متكاملاً غير مناف للعقل أو العلم أو العدل أو حاجات الناس، كل الناس! يقولون انهم في ألمانيا وإيطاليا حرموا النازية والفاشية واجتثوها بقوة ومنعوا حتى اليوم الترويج لهما، هذا صحيح، لكنهم هناك أخذوا بالعلم والعلمانية والتسامح ولم يروجوا للفكر الوهابي أو للتحريم الكيفي والتكفير، أو للطم والتطبير، ولم يطلقوا العنان لفكر يبرر ذبح مواطنيهم المعززين المكرمين من المسلمين والبوذيين والهندوس والملحدين، كما يذبح في العراق المسيحيون والمندائيون والايزيديون وغيرهم، وفي ألمانيا وإيطاليا لم يذبحوا الصحفيين والكتاب والفنانين والحلاقين وشرطة المرور وحراس البنوك وباعة الخمور وباعة الكتب وحتى باعة اللبلبي والثلج، ولم يمنعوا وضع الطماطة والخيار معاً في الأكياس، ولم يغلقوا السينمات والمسارح، ولم يجعلوا أجراس الكنائس تقطع برامجهم الإذاعية والتلفزيونية لتشق طبلات آذانهم إلزاميا عدة مرات في اليوم!
في ألمانيا وإيطاليا منعوا كتاب ( كفاحي) لهتلر ومقالات موسيليني وقصة حياته المبتذلة من التداول، لكنهم نشروا كل كتب التنوير في الفكر الأوروبي و فتحوا الأبواب واسعة أمام كل إبداع العالم في الفلسفة والعلم والأدب والسينما والمسرح والموسيقى والرقص والفن التشكيلي والطبخ والرقص والحب والجنس!
من غير المقبول أن يصير الدخان المتصاعد من محارق فكر البعث المقيت وكتبه وأفلامه وتماثيله ستاراً لتفريخ أفكار أخرى لا تقل عنه خطراً وحلكة ورعباً، وفي نواتها وديباجتها أجنة لإعادة إنتاج نظم الاستبداد والتسلط والدكتاتورية، وتكرس القهر والضغينة وعدم التسامح والوقوف في التاريخ، بل النكوص لعصور انقضت واندثرت بكل عنعناتها وعقدها وحكاياتها المثيرة للفتن الطائفية!
نعم أيها السادة احرقوا كل كتب وكراريس البعث وكل القصائد والأغاني التي ردحت لبطولات ثورجيته الفارغة المخزية، ولكن افتحوا أيضاً السينمات، السينمات فقط لا غير!
* كاتب عراقي مقيم في السويد













التعليقات