معصومة المبارك
اصبحنا في الخليج شديدي الحساسية لترمومتر الخطاب الاعلامي والسياسي الصادر من الولايات المتحدة تجاه الجمهورية الاسلامية في ايران وردة فعل الجمهورية الاسلامية لهذا الخطاب، وهذه الحساسية الشديدة تعود الى التجارب المؤلمة التي مرت بها دول المنطقة وشعوبها والاثمان الباهظة التي دفعتها نتيجة للحروب والازمات التي شهدتها منطقة الخليج منذ الحرب العالمية الثانية الى اليوم فما ان تهدأ ازمة إلا وينفجر نزاع وما ان تنفرج مبررات النزاع إلا وتصعيد آخر ينتظر لتدور المنطقة في دوامة ازمة تلد اخرى فلم تفلح القوى الدولية المسيطرة على الخليج في ايقاف هذا التوالد للتوترات الاقليمية ولا نبالغ حين نقول ان هذه القوى ذاتها كانت سببا ومفجرا للعديد من النزاعات الاقليمية وناثرا لبذورها سواء بشكل مشاكل حدودية ورثناها من ايام السيطرة والحماية البريطانية او ما تلاها من تنافس دولي على النفط والصراعات الايديولوجية التي وجدت لنفسها ارضا خصبة كان ابناء المنطقة وقودا لتلك الصراعات.
الآن وبعد ان ظننا ان الشعوب ادركت دورها في الاستقرار ومصلحتها في المحافظة عليه لما يخلفه الاستقرار من ارضية ايجابية للتنمية ورخاء الشعوب إلا ان هذا الوعي الشعبي بأهمية الاستقرار تواجهه مصالح متناقضة تجر المنطقة بأسرها لمخاوف حقيقية من ان تستخدم اراضينا واجواؤنا مرة اخرى مسرحا لعمليات عسكرية وصراعات دامية ودمار متعمد للانسان والبيئة وتحطيم الرؤى الايجابية لمستقبل افضل لشعوب دفعت اثمانا باهظة وراح الملايين من شعوبها ضحية هذه الصراعات التي لم نجن منها خيرا.
الآن تشهد المنطقة تصاعد في درجة القلق من مغامرات متهورة ترتكب من اي من اطراف النزاع حول الملف النووي الايراني او اي ملف آخر عنوانه ما زال خفيا غير معلن، وان كانت معالمه لا تخفى على المتابعين والمتخصصين.
وبالرغم من الاصوات التي تدعو الى التهدئة وضبط النفس الا ان تلك الاحداث لم تمنع القلق المتصاعد من حدوث مفاجآت تقلب كافة الموازين. ولهذا فان دول مجلس التعاون تواصل مساعيها على محورين الاول الاتصال والحوار مع كافة الاطراف المعنية خاصة مع الجانبين الايراني والاميركي، وقد شهدت المنطقة تسارعا في اللقاءات والزيارات لقيادات ايرانية لدول مجلس التعاون وكذلك زيارات لقيادات من مجلس التعاون لايران وآخرها زيارة ولي عهد دولة قطر، وقبلها زيارة رئيس الوزراء الكويتي في محاولة لتقريب وجهات النظر ومعالجة مبررات التوتر وتخفيف حدة التصعيد لسلامة المنطقة وشعوبها.
ولكن كل هذه التحركات لتطويق الازمة المتصاعدة حدتها بين الولايات المتحدة والجمهورية الاسلامية لم تنجح في مسعاها لان هناك قوة دفع مضادة وبالاتجاه العكسي تماما تهدف الى زيادة حدة التوتر وزيادة المخاوف من الانفجار لهذا الاحتقان، وقد يكون من خلال ضربة اسرائيلية لايران تجر من خلفها الولايات المتحدة الى حرب غير محمودة العواقب على كافة الاصعدة وفي رد على امكانية الولايات المتحدة خوض حرب ضد ايران في ذات الوقت الذي تنشغل بعمليات عسكرية في بقع عديدة من العالم، تؤكد المصادر الاميركية امكانية تحقق ذلك خاصة ان الحروب اصبحت حروبا الكترونية اكثر منها بشرية.
وفي هذا الشأن استخفاف كبير بحياة الشعوب في هذه البقعة المنكوبة من العالم حيث يمكن من خلال اجهزة التحكم عن بعد تفجير مبان سكنية يقطنها الآلاف في ثوان عدة ودون اية كلفة بشرية من الطرف الآخر، بمعنى اننا نحن شعوب هذه المنطقة والمناطق المماثلة بمثابة وقود للتكنولوجيا المستخدمة في الحروب بل نحن مختبرات للاسلحة الحديثة، فإلى متى سيستمر هذا التهاون في حياة الشعوب المنكوبة؟
بمقابل التهديدات الاميركية والاسرائيلية ضد ايران فان دول مجلس التعاون لا تملك سوى ان تسعى لتطوير منظومتها الامنية لانها ستكون بمثابة الفريسة بين الكماشة الايرانية والكماشة الاميركية، لذا فقد اعلنت هذه الدول عن عزمها لتطوير قدراتها العسكرية خاصة المنظومة الامنية المكونة اساسا من صواريخ باتريوت تحسبا لأي تطورات ومواجهات عسكرية ستصيب شراراتها حتما دول المنطقة كما حدث في تجارب سابقة.
اذن فإن سعي دول مجلس التعاون لتحديث قوتها العسكرية والدخول في سلسلة من التدريبات المشتركة امر غاية في المشروعية لانها ان لم تفعل ذلك فهذا يعني استخفافا غير مقبول بتطورات الاحداث واستخفافا غير مبرر بحياة شعوبها بمعنى ان القيادات السياسية في دول مجلس التعاون تتصرف تصرفا طبيعيا للغاية في خططها للتطوير العسكري الذي لن يكون هجوميا ضد اي من الاطراف وانما دفاعي يستهدف امنها واستقرارها.
ولكن ردة فعل الجمهورية الاسلامية على اعلان خطة تطوير الدفاعات الخاصة بدول مجلس التعاون كانت ردة فعل مثيرة للاستغراب وبأن هذا التطوير يستهدف ايران وسيادتها واستقرارها وهذا ابعد ما يكون عن الواقع وعن التأكيدات التي صدرت من جميع دول مجلس التعاون بأنها تسعى للتهدئة وتدعو لضبط النفس وبأنها لم ولن تستخدم اراضيها كمنصات لاطلاق الصواريخ لمهاجمة ايران بأي حال من الاحوال.
الولايات المتحدة تملك في مياه الخليج اكثر من 40 قطعة بحرية ضخمة ومجهزة وقادرة على ان تصل الى العمق الايراني اضافة الى القواعد التي تطوق ايران من جميع الجوانب اذن الولايات المتحدة ليست بحاجة الى اراضي دول مجلس التعاون لتدمير مواقع ايرانية ولكن ايران هددت اكثر من مرة بأنها اذا تم استهدافها بعمل عدواني فانها ستوجه انتقامها لمواقع في دول مجلس التعاون الامر الذي يحتم على هذه الدول ان تحتسب لمثل هذا التهديد وان تبني وتطور قدراتها الدفاعية سواء من خلال منظومة صواريخ باتريوت او غيرها تحسبا لأسوأ الاحتمالات.
وهذا تصرف منطقي ومحمود ومطلوب من دول مجلس التعاون لحماية شعوبها ومقدراتها وامنها واستقرارها فالتهديد الايراني لا يمكن تجاهله او التقليل من احتمالات حدوثه لأن المصالح الاميركية موجودة في الساحل الغربي للخليج واستهدافها يعني بالضرورة استهداف الامن القومي لدول مجلس التعاون منفردة ومجتمعة.
السيناريو السابق الذكر مخيف ومثير للقلق ولكن لا يمنعنا شعوبا وقيادات على ضفتي الخليج من الا نكل أو نمل من استخدام كافة الاساليب للتخفيف من حدة التوتر والسعي من خلال كافة الاطراف الاوروبية وغيرها لأن تلعب دور الوسيط والا نتخلى كذلك عن ان نلعب دور الوسيط لأننا اصحاب مصلحة مباشرة في الانهاء السلمي لهذا التوتر كما اننا نملك علاقات ايجابية جدا مع الولايات المتحدة ولنا في اغلب الاحيان علاقات طيبة مع الجمهورية الاسلامية الايرانية وتربطنا الكثير من المشتركات مع الشعب الايراني. فهل تستخدم هذه القنوات للتخفيف من حدة الاحتقان والانتقال بالمنطقة الى بر الامان وتهدئة التوتر قبل ان تعمد اسرائيل الى اشعال الشرارة الاولى التي ستحرق الاخضر واليابس ندعو لتحكيم العقل وابعاد شرارة الحرب عن منطقة قاست الكثير عبر عقود مضت وما زالت شعوبها تتجرع آثار تلك الحروب المدمرة والاسلحة المستخدمة فيها والدمار البيئي الناجم عنها. فهل يستجيب العقل للحكمة ام ينجرف تحت وطأة وضغوط الرغبة في التدمير والانتقام.
التعليقات