عبد الاله بلقزيز

من البيّن أن ثقافة العولمة، أو الثقافة الحاملة لقيم العولمة من وجهة نظر الميتروبولات ومصالحها، تجد في وسائط الاتصال والإعلام الحديثة أفعل الوسائل والحوامل لنقل قيمها الى العالم ونشرها في المجتمعات المعاصرة بسبب ما تنطوي عليه هذه الوسائط - والإعلام منها خاصة - من قيمة وظيفية في مضمار انتاج القيم الثقافية وتوزيعها . وهي قيمة تتزايد في ضوء ما شهده منذ مطالع عقد التسعينات من القرن العشرين، من ثورات فرضت سلطانه الضارب في الحياة اليومية للناس .

يقوم الإعلام، اليوم، بالوظائف والأدوار عينها التي نهضت بها الأسرة والمدرسة طويلاً في مضمار التكوين وتشكيل الرأي والقيم والمعايير والأذواق، وربما على نحو فاق فيه في الفعالية والتأثير ما كان في مُكْن تينك المؤسستين أن تقوما به . والأسباب التي تفسر ذلك عديدة: من الفعالية العالية للوسائط التقنية والجمالية التي يتوسل بها (الإعلام) في مجال بناء الخطاب وارساله الى المتلقي وما تنطوي عليه من مادة على قدر كبير من الجاذبية والإغراء، الى تزايد الحاجة الاجتماعية والعمومية عليه كمصدر للمعلومات والتواصل مع المحيط والعالم وتحقيق الفرجة والمتعة اللتين توفرهما المادة السمعية - البصرية، وما ينجم عن تلك الحاجة من نتائج من قبيل صيرورة الإعلام الوسيلة الأفعل لاحتكار انتباه المتلقي، إلى غير تلك من الأسباب .

ومثلما حولت ثورة ldquo;الترانزستورrdquo; قبل نصف قرن، المادة الإعلامية المسموعة إلى مادة ثقافية جماهيرية فرفعت من منسوب التواصل بين الناس والعالم الخارجي، ووسعت من أفق الإدراك العمومي لحقائق العالم والأشياء، كذلك تذهب الصورة اليوم إلى تحويل المادة الإعلامية إلى ثقافة جمعية ترتفع، مع سيولة استهلاكها اليومي، معدلات اندماج الناس في عوالم حقيقية أو متخيلة وفي منظومات قيم كونية تُصنع خارج فضاءاتها الاجتماعية والثقافية، وترتفع معها في الوقت عينه وبالتبعية فرص تعزيز موارد المخزون الثقافي والإدراكي .

على أن التدفق اليومي الغزير للمعلومات والقيم بات يستعيض بالصورة عن سواها من المواد والموارد والأدوات بما في ذلك المخاطبة الصوتية ldquo;المألوفةrdquo; أحياناً إذ الصورة خطاب ثقافي ناجز ومكتمل الكينونة والهيئة ولعله بهذا الحسبان في غَنَاء عما يصاحبه من رسوم التفسير أو التعليل أو الإيضاح أو ربما قارب أن يكون شيئاً بهذه المثابة، إنه علامة متشبعة بكل دلالاتها القابلة للتلقي والاستقبال والتداول على نحو عابر للثقافات واللغات، وبما يؤسس لمشترك إدراكي بين جماعات اجتماعية تتمايز بينها على حدود التمايز بين الألسن واللغات، وفي وسعنا أن نقول، على هذا المقتضى، إن ثقافة الصورة هي ثقافة ما بعد المكتوب، وهي التي تحرز أجزل النجاحات في جسر هُوّات التواصل بين المجتمعات ورتق المفتوق في نسيج التبادل الثقافي والقيمي بينها .

لكن لهذا الزخ اليومي لملايين الصور المحمولة على ركاب الثورة التكنولوجية والاتصالية المعاصرة والفضائيات المتولدة عنها، مضاعفات جانبية قد لا تقل في آثارها السلبية عما ينجم عنها من إيجابي الآثار، فإلى أن هذا الزخ (أو التدفق) يحمل في جوفه الغث والسمين وقد يخدش قيماً، ويبتذل ذوقاً، ويزوّر وعياً، ويكرس نمطية في التفكير والإدراك، فإن القدرة على دفع مضاره لم تعد فقط محدودة، وإنما باتت في حكم العدم بالنظر إلى الطاقة الاختراقية التي أصبح يمتلكها الإعلام الفضائي وتفتح أمامه مسالك المرور والدخول إلى فضاءات الناس ويومياتهم من دون استئذان، والاستيطان في نسيجها الداخلي بأمان، وهذه معضلة يَضَّاعف مستوى آثارها الفادحة متى أخذنا في الحسبان أن الاختلال في ميزان القوة الثقافي والإعلامي والتقاني بين العرب والغرب لا يفسح كبير مجال أمام امتصاص تلك الآثار السلبية، والرد عليها بخطاب إعلامي رديف ومضارع في التأثير .

إن سقوط الفضاء العربي الاجتماعي والثقافي في حال من الاستباحة أمام الامبراطوريات الإعلامية الضاربة لممَّا تدفع الأجيال العربية الجديدة حديثة النشأة والتكوين أكلافه الباهظة أكبر بكثير من الأجيال التي سبقتها، ليدفع معها مجتمع المستقبل الثمن عينه، ذلك أنه أمام حقيقة الخراب العظيم الذي أصاب مؤسسات التنشئة والتكوين التقليدية، من أسرة ومدرسة، وأضعف وظائفها في امتداد ميلاد مؤسسات أخرى منافسة ومتفوقة (الإعلام المرئي، الانترنت . .)، وأمام التغيرات العاصفة التي أحدثتها وتُحدثها العولمة في منظومات القيم، سيكون من الصعب أن نتخيل كيف يمكن كفّ هذه الاستباحة وصون النسيج الاجتماعي والقيمي بأدوات ومؤسسات متآكلة .

ما أغنانا عن القول إن المسألة، على هذا النحو الذي به نطرحها أو نثيرها، إنما تنبه إلى ما بات ينتظر الأمن الثقافي والأمن الإعلامي العربي من شديد المخاطر كلما استمرت حال الاستباحة على ما هي عليه من دون استراتيجيات عربية إعلامية معاكسة . وبقدر ما تقتضينا الأمانة القول إن بعضاً من الإعلام العربي المرئي (الفضائي) أصاب بعض حظ في تكريس نفسه مصدراً من المصادر الرئيس للمعلومات ومساحة نافست، في حقل المشاهدة، المواقع التي احتلتها الامبراطوريات الإعلامية العالمية الضاربة . .، تقتضينا الامانة عينها الاعتراف بأن مساهمته تكاد تكون يتيمة في بيداء الإعلام العربي المرئي السادر في تفاهاته التي لا تنتهي والنازع نحو إعادة انتاج المضمون الثقافي والقيمي الرديء والمنْحَطّ .