خالد الدخيل

يحق للعراقيين أن يحتفلوا بانتهاء اليوم الانتخابي (الأحد الماضي)، وبشجاعتهم على تحدي الوضع الأمني، وحلمهم بأن تكون أصواتهم هي من يصنع مستقبل العراق، وليس التفجيرات. ومن حقهم أن يتحدثوا بنبرة تفاؤل عن إتمام انتخابات توصف بأنها مفصلية وتاريخية. لكن هل يمكن لهذه الانتخابات أن تشكل بداية جديدة للعراق، ليس بمعنى بداية لما بعد مرحلة صدام وحسب، وإنما بمعنى تجاوز مرحلة ما بعد الغزو التي تقترب من إتمام عامها السابع؟ في هذه المرحلة أُعيدت صياغة التجربة السياسية العراقية بحيث ترتكز على أسس طائفية وإثنية، وتتسع لتدخلات خارجية. هل تسمح المصالح الكبيرة، المحلية والإيرانية، التي استثمرت في هذه التجربة بتجاوزها، والعودة بالعراق مجددا إلى سابق عهده، دولة عربية ديمقراطية حرة، قوية وتملك حساسية عالية إزاء أي تدخل أجنبي؟

هناك إشكالية أخرى، وهي أن العراق عاد إلى تجربة الانتخابات في اللحظة التي لم تعد الانتخابات فيها من الأحداث الاستثنائية في العالم العربي. لم تعد الأنظمة السياسية العربية تعدم طريقة للتكيف مع مطلب الانتخابات، مع الإبقاء على كل شيء على حاله في طبيعة هذه الأنظمة. قد لا ينطبق هذا على العراق الحالي الذي خرج تحت الاحتلال من ركود الاستبداد العربي، إلى نسق سياسي آخر، يبدو أخطر وأكثر سوءاً. ربما قيل إن معالم هذا النسق لم تتبلور نهائياً بعد. لكن هناك ما يكفي مما حصل خلال نحو سبع سنوات، مما يبرر التوقف والتساؤل في أحسن الأحوال، والشك والتشاؤم في أسوئها. هذا فضلا عن أن انتخابات العراق في إطار هذا النسق تأتي على طبق تختلط فيه عناصر الاحتلال مع معالم الطائفية، وتتقاطع فيه مع اختراقات ومؤثرات إيرانية ظلت تنتظر هذه اللحظة منذ زمن بعيد. من هذه الزاوية، يبدو التفاؤل الذي يضفيه البعض على الانتخابات العراقية الأخيرة لا يتجاوز كثيراً حدود التفكير بالتمني، خاصة من قبل العراقيين. الجميع يتمنى للعراق استقراراً سياسياً مستحقاً منذ زمن بعيد، ومستقبلا ديموقراطياً يليق به وبتاريخه الطويل.

أن تكون هناك انتخابات شيء جميل. وأن تكون هذه الانتخابات نزيهة وشفافة شيء أجمل. لكن هذا غير كاف بحد ذاته. الأسوأ أن تشبه هذه الانتخابات التجربة quot;الديموقراطيةquot; اللبنانية. لماذا؟ هناك حقيقة أن لبنان هو البلد العربي الذي يملك أطول تجربة انتخابية، تمتد لأكثر من نصف قرن. ومع ذلك، لم يعرف هذا البلد، الصغير والجميل، الديموقراطية، بل إنه من أكثر البلدان العربية معاناة من الطائفية والعنف، وضعف الدولة، ومن عدم الاستقرار السياسي. طبعاً ليس غريباً أن طول تاريخ الانتخابات، وكثرة المهرجانات الانتخابية جيلا بعد آخر، مع وجود هامش واسع لحرية الرأي والتعبير، خلقت لدى كثير من اللبنانيين وهماً بأن بلدهم هو البلد الديموقراطي الوحيد في العالم العربي. وهو على أية حال وهم مشروع تبعاً للمعايير العربية. لأن مقارنة لبنان بكثير من الدول العربية على أساس من الحريات السياسية والفكرية، وخاصة مقارنته مع دول مثل سوريا وليبيا، لا تترك مجالا إلا النظر إلى هذا البلد الصغير على أنه واحة للديموقراطية في صحراء الاستبداد العربي.

لماذا ينبغي مقارنة العراق بلبنان؟ هناك اختلافات كثيرة بين البلدين. فلبنان لم يعرف الملكية كما عرفها العراق، ولم يخضع لحكم quot;البعثquot;، وإن كان قد جرب طعم هذا الحكم أثناء الوصاية السورية. ينتمي العراق إلى نادي النفط، ويقع على ضفاف الخليج العربي، بين إيران والجزيرة العربية، وبادية الشام. في حين أن لبنان يقع على ضفاف البحر المتوسط، وتحديدا على التخوم الغربية لمنطقة الشام. يجد لبنان نفسه محشوراً، بحكم المصادفة التاريخية ربما، بين فلسطين المحتلة، وبين دمشق المنهمكة في شؤونها. وبحكم أن كليهما بلدان عربيان، يتداخل تاريخ العراق في بعض محطاته مع تاريخ لبنان، لكنه يختلف كثيرا من حيث أنه كان موئلا للخلافة في أوج مجدها، ومن حيث أنه في جوف هذا التاريخ تبلورت في إهابه أبرز وأخطر خطوط المذهبية الدينية في الإسلام: الخوارج، والمعتزلة، والشيعة، وأهل الحديث أو الصورة الأولى للسلفية. وبعد ذلك، وخاصة في العصر الحديث، كان العراق طرفا رئيسا في اللعبة الإقليمية، أما لبنان فكان ولا يزال ورقة سياسية يتصارع عليها أطراف هذه اللعبة الإقليمية، والدولية أيضا.

ماذا عن العراق الآن؟ هل لايزال طرفا رئيسا في المنطقة؟ في الظرف الحالي هذا سؤال ساذج، لكنه لم يكن مطروحا قبل الاحتلال، والتجربة السياسية التي أفرزها. المجمع عليه الآن أن بلاد الرافدين خرجت من معادلة التوازنات التي تحكم المنطقة تحت وطأة الانقسامات والدم والتدخلات الخارجية في إطار هذه التجربة. ومن ثم فالسؤال المنطقي هو: هل تضع الانتخاباتُ العراقَ على طريق الخروج من تجاربه المريرة التي أوصلته إلى ما هو عليه الآن؟

هذا عن بعض الاختلافات بين العراق ولبنان، وهي اختلافات كبيرة. ماذا عن أوجه التشابه؟ كل من العراق ولبنان له تركيبة اجتماعية تتميز بالتعددية الطائفية والقومية. وكلاهما فشل في تحويل هذه التعددية إلى مصدر للغنى والتنوع والحرية، وبالتالي الازدهار الثقافي والسياسي، وترسيخ مفهوم الدولة، والتداول السلمي للسلطة. على العكس، في كليهما أصبحت التعددية مصدراً مزمنا للانقسامات، والحروب، ومبرراً للاستبداد والعنف بمختلف أشكاله. ارتبط العنف في العراق في أغلب تاريخه بوطأة الدولة واستبدادها، أما في لبنان فقد كان العنف نتيجة طبيعية لضعف الدولة، وتقاسم سلطاتها ومغانمها بين الطوائف. لا قوة الدولة واستبدادها قضى على الطائفية والتخلف في العراق، ولا ضعف الدولة وهامش حرية التعبير حقق عكس ذلك في لبنان. يقع العراق على حدود إيران (فارس) التي لم تتوقف يوما عن النظر إليه، لأسباب يتداخل فيها التاريخ مع المذهب والمصالح الإقليمية، باعتباره عمقها الاستراتيجي الوحيد في المنطقة. وعلى الناحية الأخرى، يقع لبنان في قلب الصراع العربي الإسرائيلي، ويجد نفسه موضوعا خطيرا للتجاذب، وتصفية الحسابات بين أطراف إقليمية ودولية تتأثر مصالحها وحظوظها بتوجهات هذا الصراع. والشاهد هنا أنه بقدر ما يمثل العراق بالنسبة لإيران الورقة التي تطمح للإمساك بها في منطقة الخليج العربي، وصولا إلى تأمين وجودها في منطقة الشام، فإن لبنان هو الورقة التي تشعر دمشق أنها من دونها تصبح مكشوفة بأكثر مما ينبغي في منطقة الشام ذاتها.

من هنا ليس غريباً إصرار العراقيين الشيعة والأكراد على استنساخ التجربة السياسية اللبنانية، سواء من حيث ترسيخ الاصطفافات الطائفية والإثنية، أو من حيث ربط هذه الاصطفافات بالتدخلات الخارجية. مما يوحي بأن نجاح الانتخابات البرلمانية الحالية في وضع العراق على طريق استعادة استقلاله وسيادته، واجتراح تجربة ديموقراطية تعيد له حصانته واستقراره، ستكون له على الأرجح أكلاف باهظة، وربما مدمرة. هل تسمح إيران بمثل هذا النجاح؟ بل هل يسمح حلفاء إيران في الداخل بالذهاب بعيداً في هذا الطريق؟ مأزق العراق حاليا أن القوى السياسية الشيعية، وهي الأقوى، تربط مستقبلها السياسي، ومستقبل العراق بهويتها المذهبية. تنطلق من فرضية أن التاريخ كان محابياً للسُّنَّة في أن جعل حكم العراق طوال القرون الماضية من نصيبهم دون غيرهم. لكن هذا التاريخ غير وجهته مؤخراً على أيدي الأميركيين، وفتح باب الحكم أمام الشيعة ليأخذوا نصيبهم المستحق منه. حدثت هذه الانعطافة التاريخية في اللحظة التي تحكم فيها ولاية الفقيه في طهران. ومن ثم تتقاطع رؤية القوى السياسية الشيعية في العراق مع الرؤية الإيرانية. وهذا من دون أن نأخذ في الاعتبار مواقف الأكراد، ومصالح الأميركيين، ودول الجوار الأخرى. هل في هذا المشهد مجال كاف للتفاؤل؟