مبارك الذروه

يعيش الفكر السياسي هذه الأيام في حالة من الترف الذهني البراق، وذلك فيما يتعلق بتسمية البحر المطل على ضفاف الدول المحيطة بالخليج. فهل هو خليج فارسي أو عربي، أو خليج فارسي عندهم وعربي عندنا، أو ربما هو خليج عربي فارسي معاً؟
وسارت الركبان بهذه الآراء فرويت الروايات التاريخية، وتعددت طرق نقدها وتحليلها، ثم جاءت وثائق الأمم المتحدة فاختلفت الآراء وارتفعت الأصوات، فما هو الحق في هذه الأزمة الزائفة!
بداية أود أن أسجل ملاحظة أظنها مهمة تشير إلى أي مدى صارت النخب السياسية والثقافية ترزح تحت وطأت الأشكال والأسماء وسطحيات المسائل والمشكل السياسي. فما الفائدة من كون الخليج... عربي أو فارسي؟
نعم نحن ندرك أن هناك دلالات لا نقلل من شأنها، وهناك أبعاد للتسميات قد يكون غرضها التصعيد ومآرب أخرى، لكن أن يخدع مسؤول ويجر إلى حلبة نزاع إعلامي لا طائل من ورائه ويتبعه كبار كتاب في هكذا طرح أظنها حالقة للفكر السياسي والثقافي، والدخول في منعطفات لا توصل إلى مسار عملي واضح، بل انها تشحن الرأي العام في جزئيات شكلية تاريخية وتهمش ما هو أولى وكلي، كما أنها تثخن الهم الوطني، وتسطح قدراته لتشغله بما هو نظري عما هو عملي وإجرائي.
والواقع أن خليجنا الميمون يستحق أن يطلق عليه laquo;الخليج الأطلسيraquo; بامتياز فليس لنا منه سوى السمك والربيان واللهو البريء أحياناً! أما سادة البحار فإنهم يجوبونه ليل نهار بفرقاطاتهم وبوارجهم وسفنهم الحربية والتجارية بلا حسيب أو رقيب، لهذا لا يستحق أن يكون فارسياً أو عربياً!
ثمة أمر آخر أود الإشارة إليه، هل إثارة الخلاف الاصطلاحي لتسمية خليج، لا يملك لنفسه حولاً ولا قوة، أجدر أم الخوض في طرق الخروج من المشكل السياسي بين دول الخليج من جهة والدولة الإيرانية من جهة أخرى. ثم ان الأسماء تتغير بتغير الأزمنة فبلاد الرافدين أصبحت جمهورية العراق، وجزيرة العرب أصبحت المملكة العربية السعودية، وبحر القلزم أصبح الأحمر، وذهبت أسماء القائمقام والفرمانات واللغة العشائرية المستبدة.
دول المنطقة تحتاج إلى فتح ملفات عالقة بين الجهتين تتعلق بكيفية أساليب الطمأنة لدول الجوار من جراء المفاعل النووي على سبيل المثال، ومواجهة مشكلات التسلل عبر الحدود، وخطف الأبرياء إن وجد. ملفات مهمة وليست شكلية، ملفات الجزر الإماراتية مثلاً والتصاريح غير المحسوبة أحياناً، والتصعيد الإعلامي في الصحف والمدونات من الجانبين.
لماذا لا تفتح قنوات للحوار بشكل أكبر، والتعرف على الفكر الإيراني عن قرب من دون همزات قطع والتي كثير ما تسعى إلى تشويش العلاقات بين الدول ووحداتها. لماذا كثيراً ما نتجمهر حول الجزئيات والفروع ونبتعد عن الكليات والأصول، أيهما أولى وأهم: الخوض في تسمية بحر وهو جزئية، مع أهميتها المحدودة، أم الخوض في كليات وأصول العلاقات السياسية والثقافية؟
هذا الإغراق غير المبرر في جزئيات وفروع مشكلات العلاقات السياسية لن ينفع مسيرة التطلع لأمن المنطقة، ولو سلمنا بكونه عربياً أو فارسياً، فما الذي تغير ضمن معادلة العلاقة بيننا في التقارب أو التباعد، أليس أجدر أن نتجاوز الخلاف الاصطلاحي إلى المضامين الجوهرية وأس العلاقات بين الدول، والدخول مباشرة وبشفافية في التوجس الشعبي والخليجي من إيران. تصريحات المطارات وما قبل الإقلاع السريعة هي رسائل سياسية يلفها القلق والهروب من المواجهة. أليس أولى أن نقولها بصراحة ان هناك عدم اطمئنان لتدخلات إيران في المنطقة... لكي نمنح جيراننا الإيرانيين حق التبرير وكشف المستور؟
إن إشغال الرأي العام بأسماء وشخوص المشكلات إنما هو بمثابة من ينشغل بجرح صغير في قدميه ويهمل داء عضالاً يفتك في جسده وكأنه يقول مخادعاً نفسه العوض ولا القطيعة. وكان الله في عون الكويت.