راجح الخوري

كان واضحا تماما أن الوضع اللبناني المأزوم آنذاك، سيشكل المدخل العملي للتفاهم السعودي ndash; السوري، بعد انتفاضة خادم الحرمين الشريفين في خلال قمة الكويت. ولكن كان واضحا ايضا وسلفا، ان هناك قوى في صفوف المعارضة اللبنانية، لن يُسعدها اطلاقا ان تشكل اعادة ترتيب العلاقات اللبنانية ndash; السورية مدخلا الى ترتيب الوضع الداخلي في لبنان بما يُريح ارجحية الرئيس سعد الحريري النيابية التي حملته الى رئاسة السلطة التنفيذية كما هو معروف.
وعندما ذهب الحريري الى دمشق شكلت الحفاوة الشخصية التي اظهرها الرئيس بشار الاسد انعطافا كبيرا في طبيعة العلاقات سواء على المستوى الشخصي بين الرجلين، او على مستوى العلاقة السلبية التي سادت في الاعوام الاخيرة بين البلدين. هذا الامر اثار مزيدا من الامتعاض لدى بعض قوى 8 آذار، ووصل الامر الى القول بما يُشبه المرارة، انه من الآن فصاعدا سيكون على من يريد ان يحظى بالمقبولية السورية ان يمر عبر اقنية سعد الحريري.
وهذا الامر ايضا كان قد آثار امتعاضا دفينا لدى اوساط وشرائح في قوى 14 آذار، وذلك على خلفية كل تاريخ العلاقة المأزومة بين بيروت ودمشق التي سادت في الاعوام الخمسة الماضية. وكان واضحا ان الحريري يواجه مهمة صعبة تقريبا في خلق قناعة جماهيرية واسعة لدى quot;تيار المستقبلquot; وبعض قوى 14 آذار بان ضرورات انتشال الوضع في لبنان والبدء بوضع حجر الاساس للعلاقة الاخوية الثابتة والواضحة مع سوريا يتطلب مثل هذه الاستدارة وضرورة ان تُبنى على قاعدة من الاقتناع الضروري بالجدوى ومن الصدق في التعامل.
لم يكن الامر سهلا على المعارضين الذين ازعجهم ان يصبح الحريري باكثرية غير مسبوقة رئيسا للحكومة، وضيفا مميزا على المستوى الشخصي مع الرئيس بشار الاسد، ولم يكن هينا ايضا على شرائح في quot;تيار المستقبلquot; ولدى شركاء الحريري، وهذا امر مفهوم، لان الاستدارة من دائرة السلبية وتوجيه الاتهامات، الى دائرة التفاهم وبناء قاعدة العلاقات المميزة يتطلب كثيرا من الوقت والجهد والفهم والتفاهم.
واذا كان واضحا من خلال بعض التصريحات والتحليلات التي تتكاثر في بيروت وتقوم في اوساط معارضة على بث الشكوك وابتداع السيناريوات والاجتهاد في الفبركات وترويج الاضاليل، اذا كان واضحا ان الهدف هو الحرص على ابقاء علاقات الحذر والريبة والشكوك قائمة بين سوريا ورئيس الحكومة اللبنانية فان ذلك يظهر من زاوية اخرى من خلال ما يستهدف قيام مؤسسات الدولة، ولم يكن غريبا في هذا السياق ما ادلى به الحريري في جلسة مجلس الوزراء الاخيرة من استغراب للحملة على وزارة الداخلية وقوى الامن الداخلي خصوصا وما يُطلق ضدهما من الاتهامات، حيث اكد ان الاتفاقات بين الجهات المانحة للبنان بما فيها وكالة التنمية الاميركية تتضمن بنودا شبيهة بتلك التي باتت موضوعا لاطلاق الاتهامات كما رأى ان هذا الامر لا يبني وطنا بل يهدم الجهود التي تقوم بها الحكومة لتعزيز هيبة الدولة وفاعلية الاجهزة الامنية.
عملياً، لم يمض على زيارة الرئيس الحريري لدمشق اكثر من ثلاثة اشهر ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن حافظ الرجلان على سياق جيد وحار من الاتصالات على المستوى الشخصي التي تساعد فعلا في بناء قاعدة العلاقات التي اشرنا اليها، لكن ذلك لم يمنع المتضررين في المعارضة، من محاولة استغلال كل تحرك او كل كلمة في اطار الاساءة الى الايجابية التي قامت بين الرجلين. وهكذا بعد تصريحات الرئيس الاسد الى صحيفة quot;نيويوركرquot; الاميركية التي تحدث فيها عن مساوئ النظام الطائفي في لبنان وعدم الاستقرار واخطار الانزلاق الى حرب اهلية، بدا واضحا ان الحريري وquot;تيار المستقبلquot; سارعا الى امتصاص ردات الفعل المحلية على هذا الكلام والتركيز على التوضيح الاعلامي الذي صدر عن مصادر سورية لاعتبار الامر وكأنه لم يكن.
اما عندما اثير موضوع تصريح الرئيس الحريري الى صحيفة quot;كوريرا دي لاسيراquot; اثناء زيارته للفاتيكان حيث بدا وكأن هناك محاولة لتشبيه العلاقة السورية بلبنان كالعلاقة العراقية السابقة بالكويت، فقد تعمدت اوساط في المعارضة اللبنانية استغلال هذا الامر لمحاولة تخريب العلاقة بين الحريري والاسد رغم ان الصحيفة الايطالية قد اصدرت توضيحا ينفي ان الحريري شبّه الاسد، بصدام حسين، في حين حرص الحريري على نفيه غير المباشر على هذا الكلام بالقول ان العلاقات بين لبنان وسوريا تسير من حسن الى احسن.
ومن خلال نقاشات معمقة مع مقربين من الحريري، يبدو واضحا ان رئيس الحكومة اللبنانية الذي بات يضع المحكمة الدولية في ذمة الشرعية الدولية، مؤمن تماما بان الشعار الذي سبق للرئيس الاسد ان طرحه قبل اعوام خلال زيارته، في مقابلة مع جريدة quot;لو فيغاروquot; الفرنسية، من ان العلاقات بين لبنان وسوريا يفترض ان تكون ممتازة ومميزة وتحتذى على مستوى العالم العربي، هذا الشعار يجب ان يكون اساس البناء الجديد للعلاقة بين البلدين الشقيقين كما يريدها الاسد وكما يرغب فيها الحريري...
وتضيف اوساط مقربة من الحريري ان هذا الامر يتلاقى بصدق مع جوهر المبادرة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين في قمة الكويت عندما دعا الى ترتيب اوضاع البيت العربي، كما انه يُترجمها في شكل عملي.
من خلال هذا كله، يمكن المراقب ان يفهم ان الحريري يملك مقاربة عميقة للعلاقة بين لبنان وسوريا تقوم على مفهوم استراتيجي يتجاوز الملفات العالقة لدى هذا الطرف او ذاك، وان التفاهم بين البلدين يجب ان يتجاوز كل النقاط الخلافية التي يمكن حلها ولن تبقى عالقة بالتأكيد، عندما يُنظر الى هذه العلاقة على انها قاعدة اساسية تخدم البلدين ومصالح الدول العربية جمعاء والاستقرار الدولي ايضا. فليس غريبا مثلا ان يكون موضوع الارهاب همّا ثقيلا يواجه لبنان كما يواجه سوريا لان الارهابيين عندما يتحركون في لبنان يهددون سوريا والعكس صحيح. وما ينطبق على الارهاب ينطبق بالتأكيد على موضوع جواسيس العدو الاسرائيلي الذين يتآمرون على لبنان كذلك على سوريا في الوقت عينه. وليس خافيا ان لبنان هو بوابة سوريا الاساسية في مسائل التجارة والتصدير وان سوريا هي بوابة لبنان في كل شيء على العالم العربي.
على اساس كل هذا، فان الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الحريري لدمشق، والارجح ان تحصل بعد انعقاد القمة العربية اي في اواخر هذا الشهر، ستكون الخطوة الثانية في طريق ترسيخ كل هذه المفاهيم والقيم والاسس والضرورات التي اشرنا اليها اعلاه، لان من الواضح تماما ان سعد الحريري يريد هو ايضا للعلاقات بين لبنان وسوريا ان تكون قاعدة تحتذى في العالم العربي. وعندما تكون كذلك يمكن وصفها حينذاك بانها اخوية ومميزة.
واذا كانت كل تجارب لبنان الحلوة والمرة وكل حنكة سوريا التاريخية المعروفة وكل دراية السعودية وسهرها لن تتمكن من ايجاد ترجمة عملية وموضوعية للعلاقات المميزة بين لبنان وسوريا تخدم البلدين الشقيقين كما تخدم العالم العربي، فليس مستغربا الافتراض انه لن يكون في استطاعة احد ان يقيم علاقة جيدة بين عاصمة عربية واخرى.