إميل أمين
في أعقاب اللقاء الأخير الذي جمع في البيت الأبيض بين الرئيس الامريكي باراك أوباما وبين الزعيم الروحي للتبت الدالاي لاما وردود الفعل الصينية المنزعجة بسبب هذا اللقاء، والتي تؤجج النيران المشتعلة بين بكين وواشنطن لا سيما بعد ما جرى من أمر صفقة الأسلحة الأمريكية المتقدمة لتايوان، بات السؤال الجوهري المطروح على ساحة العلاقات الدولية: هل الرجل هو مخلب قط أمريكي ومرشح ظهور أنداد كثيرين له في مختلف بقاع وأصقاع الأرض تحت لافتات الحرية وحقوق الانسان، خاصة من أصحاب النزعات الانفصالية؟
تكثر الأحاديث الموثقة وغيرها عن طبيعة علاقة الدالاي لاما بالأمريكيين خاصة وبالأوروبيين عامة حتى بغير هؤلاء وأولئك بمعنى علاقته باليهود وrdquo;إسرائيلrdquo;، ولا يمكن تحديد أول زيارة قام بها للولايات المتحدة بصورة مؤكدة، فهناك في الدفاتر الخفية كلام كثير عنها غير أن أهمها وأول واحدة اعتبرت ذات شأن وأشارت توابعها للعلاقة الخاصة بينه وبين ساكن البيت الأبيض، تلك التي جرت في عهد الرئيس الجمهوري رونالد ريجان والذي لم يكن يألو جهداً في محاربة الشيوعية سواء في روسيا أو الصين .
ففي 21 سبتمبر/أيلول من عام 1987 أعطت اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان بمجلس النواب الأمريكي، الكلمة للدالاي لاما الذي قدم اقتراحاً من خمس نقاط حول ما يسمى ldquo;وضع التيبتrdquo;، وعقدت لجنة شؤون الخارجية بمجلس النواب جلسة استماع يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول عام 1987 حول حقوق الإنسان في التيبت أيد خلالها عدد من أعضاء الكونجرس الدالاي لاما ، وحاولوا ممارسة ضغط على الصين .
بعد ذلك صعّد الدالاي لاما من الأنشطة الانفصالية، ومضى بشكل متكرر يروج لأفكاره في الدول الغربية، وفي 27 سبتمبر/أيلول من عام 1987 أي بعد ستة أيام من الكلمة التي ألقاها أمام اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان في مجلس النواب الأمريكي، شهدت لاسا عاصمة منطقة التيبت ذاتية الحكم أول أعمال الشغب التي كانت ترمي لتحقيق ما يسمى باستقلال التيبت .
وقد استمرت الحكومة الأمريكية والكونجرس في دعمهما للدالاي لاما بشتى الطرق بعد عام ،1989 وفي هذا السياق كانت الإشارات المتعددة الواردة في وثائق وزارة الخارجية الأمريكية المفرج عنها عام 1998 تؤكد على أن الدالاي لاما كان يتلقى مبالغ مالية من الحكومة الأمريكية بصفة سنوية ففي 1-10-98 قالت ldquo;النيويورك تايمزrdquo; أنه كان يتلقى مبلغاً بمثابة راتب سنوي مقداره 186 آلاف دولار من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA من بداية الخمسينات إلى نهاية السبعينات .
فيما أشارت ldquo;اللوس أنجلوس تايمزrdquo; الصادرة بتاريخ 15-9-98 بأن 1،7 مليون دولار كانت تقدم للحركة الانفصالية في التيبت سنوياً للقيام بأعمال عنف مسلح ضد الصين الشعبية خلال نفس الفترة .
وتبقى في الأمر علامة استفهام، كيف واصلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة دعم الدالاي لاما وجماعاته الانفصالية، حتى بعد قيام علاقات دبلوماسية صينية أمريكية؟
ربما كانت الإجابة تمر هذه المرة عبر قنوات معلومات الاستخبارات الروسية، والتي من خلالها كانت وكالة الأنباء الروسية ldquo;نوفوستيrdquo; تشير إلى أن دعم الانفصاليين التيبتين استمر عبر مجموعة من ال SNGO أي المنظمات الأهلية غير الحكومية والمعروفة باسم منظمات المجتمع المدني بل إلى أبعد من ذلك إذ تشير الوكالة ذاتها في تقرير لها تحت عنوان ldquo;القلاقل في التيبت تتبع سيناريو كوسوفوrdquo; في صيغة أبعد ما تكون عن الإعلام وأوثق وألصق ما ينبغي بقراءة مخابراتية معلوماتية، تقول فيه إن من بين تلك المنظمات غير الحكومية ومراكز الأبحاث: ldquo;الحملة الدولية من أجل التيبتrdquo; والصندوق الاجتماعي وتنمية الموارد وشبكة التيبت للمعلومات ومعهد التيبت وغيرها من المسميات العريضة .
والحاصل أن الدالاي لاما ومنذ العام 1967 ومع رمزية العام نفسه كان يختط لنفسه خطاً مغايراً لما سبق، وسعى من خلاله في رحلة نضاله بحسب أقواله فقد كان مسارعاً للمشاركة في كل حوارات الأديان حرصا على أن يكون للبوذية مكانة كتلك التي تحتلها الديانات السماوية، وفي عام 1973 كان لقاؤه الأول في الفاتيكان مع البابا بولس السادس، ولاحقاً التقى البابا البولندي الأصل يوحنا بولس الثاني مرات عديدة . وفي عام 1990 التقى وفداً من حاخامات اليهود ومنذ ذلك التاريخ بدأ علاقة حميمة مع ldquo;إسرائيلrdquo; التي زارها ثلاث مرات كان آخرها في 15-2-2006 وذلك في الذكرى المئوية لما أطلق عليه وقتها ldquo; هجرة ديفيد بن جوريون أول رئيس لدولة ldquo;إسرائيلrdquo; إلى الأراضي المقدسةrdquo; .
وهناك كان لابد له أن يزور ضريح بن جوريون وأن يلقي كلمة أوردتها الصحف الصهيونية بكاملها وفيها غزل صريح يمتد من تل أبيب ليصل إلى واشنطن، مروراً بعواصم غربية أخرى مثل لندن التي التقى فيها قادة الكنيسة الانجليكانية، وقد توجت هذه العلاقات المتشعبة مرتين الأولى عام 1989 عندما تم منحه جائز نوبل للسلام، والثانية في منتصف شهر أكتوبر/تشرين أول من العام ،2007 ففي احتفال رسمي كان الرئيس الامريكي السابق جورج بوش يقلد الدالاي لاما الميدالية الذهبية للكونجرس الأمريكي، أعلى وسام شرف مدني أمريكي، وكان المبرر هو ldquo;تقديراً لجهوده من أجل السلام وحقوق الإنسانrdquo; . وفي الكلمة التي ألقاها بوش في مراسم تسليم الجائزة وصف الدالاي لاما بأنه ldquo;شعلة شعب التيبت التي ظلت مضاءة طوال الوقتrdquo; مع أن الصين وحكوماتها كانت على مدى نحو خمسة عقود ترى انه ذئب يتخفى في ثياب رجل روحي .
ويبقى ما يستوقف المرء، إذ كيف قُدِّر للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش صاحب النزعات الدينية الإنجيلية الأصولية، أن يضفي هذه الهالة من القداسة والتوفير على رجل يعد في معتقد بوش الديني بلا ناموس وهي صيغة مهذبة ومقنعه لمقولة ملحد أو لا ديني، ويمكن القول ولو على غضاضة ldquo;كافرrdquo; لا يؤمن بالله وليس من الموحدين سواء اليهود أو المسلمين؟
ربما يتبقى القول إن التيبت ليست إلا فصلاً جديداً من فصول كثيرة تعمد الولايات المتحدة من خلالها إلى مواجهة التنين الصيني، ووقف نموه وامتداده الامبراطوري حول العالم ولهذا لا تتردد في استقبال الدالاي لاما رجلها في التيبت حتى لو غضبت بكين التي تحتاجها واشنطن أشد الاحتياج اليوم للوقوف بجانبها في مجلس الأمن، خاصة اذا مضت في طرح مشروع قرار بعقوبات على إيران فالخدمات التي يقدمها الرجل للاستراتيجية الامريكية التوسعية في آسيا أهم كثيراً من ملف ايران، ويظل كذلك نسقه كارثة على استقرار دول عديدة حول العالم، ومنها البعض في العالم العربي حيث تحاول واشنطن تعزيز النزعات الانفصالية لمصلحة الأجندة الامبريالية الأمريكية ما ظهر منها وما خفي .
التعليقات