خيرالله خيرالله

لم يعد مهماً ذهاب الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط إلى دمشق. إنها زيارة لا تقدّم ولا تؤخّر، خصوصاً أنه ذهب إليها قبل أن يذهب. تغيّر وليد جنبلاط، أم لم يتغيّر، لم تعد تلك المسألة. المسألة باتت مرتبطة عملياً بقدرة دمشق، أي النظام السوري تحديداً، على التعاطي بطريقة مختلفة مع لبنان وعلى الاستفادة من تجارب الماضي القريب بما يحفظ مصلحة البلدين والشعبين. لعلّ التجربة الأولى، التي في استطاعته الاستفادة منها، تتمثّل في أن الاغتيالات والتفجيرات لا تحل أي مشكلة، لا في لبنان ولا في سورية نفسها، وأن السلاح المتدفق على لبنان لا يخدم النظام السوري، إلاّ من وجهة نظر معينة تستند إلى أفق ضيق طبعاً، وذلك لفترة محدودة. في المدى الطويل، لا يمكن لهذا السلاح إلا أن يرتد على سورية نفسها. لماذا؟ لسبب في غاية البساطة يتلخص في أن السلاح المتدفق على لبنان من الأراضي السورية، وهو سلاح إيراني في معظمه، لا يخدم أي قضية باستثناء إثارة الغرائز المذهبية. هل هناك مصلحة سورية في إثارة الغرائز المذهبية في أي بلد عربي كان، خصوصاً إذا كان جاراً لها؟ هناك، في الواقع، فريق مسلح ينتمي إلى طائفة معينة في لبنان يفرض رأيه وإرادته على اللبنانيين وعلى مؤسسات الدولة اللبنانية ويمتلك قرار السلم والحرب. هل ستبقى سورية، إلى الأبد، أسيرة هذا الفريق في لبنان في ظل اختلال التوازن في العلاقة السورية - الإيرانية نتيجة اضطرارها إلى سحب قواتها المسلحة من الأراضي اللبنانية في ابريل من العام 2005؟
المهم أن تستغل دمشق انفتاح وليد جنبلاط عليها مجدداً في سياق التأسيس لنهج جديد في العلاقات بين البلدين. يفترض بها أن تسعى إلى ذلك حتى لو كان laquo;حزب اللهraquo; أكد بطريقته، من خلال صيغة البيان الأخير الذي أصدره، أنه اقتاد وليد جنبلاط إلى العاصمة السورية مخفوراً. هناك فرصة أمام دمشق، بعد استقبالها الرئيس سعد الحريري وبعد انفتاحها على وليد جنبلاط، للتفكير ملياً في النتائج التي يمكن أن تترتب على التعاطي مع لبنان من زاوية أن هناك منتصراً وأن هناك مهزوماً. بكلام أوضح، من الأفضل للنظام السوري التخلي عن فكرة أن سلاح laquo;حزب اللهraquo; يضمن له الهيمنة على القرار اللبناني وعلى السياسيين اللبنانيين وعلى المؤسسات اللبنانية، ما دام الحزب قادراً على متابعة تدمير مؤسسات الدولة واستخدام الميليشيا التابعة له لغزو بيروت والجبل الدرزي مرة أخرى على غرار ما فعله في السابع والثامن والتاسع من مايو 2008. أي معنى لانتصار من هذا النوع على لبنان واللبنانيين، وكيف يمكن لمثل هذا الانتصار تحسين وضع المواطن السوري والموقع الإقليمي لسورية؟
صحيح أن وليد جنبلاط استسلم نتيجة غزوة الجبل بعدما اكتشف أن في استطاعة laquo;حزب اللهraquo; تهجير قرى درزية بأكملها في غياب قوة شرعية تحمي المواطن اللبناني داخل بيته وقريته ومدينته، لكن الصحيح أيضاً أن لبنان ما زال يقاوم. لبنان لم يستسلم. لبنان ردّ على غزوة مايو 2008 بانتخابات يونيو 2009. ولبنان ردّ على محاولة اخضاعه عن طريق السلاح الميليشيوي والمذهبي في بيروت نفسها عن طريق الدفاع عن ثقافة الحياة في مدينته. لم تكن زيارة سعد الحريري لدمشق، بعد تشكيل الحكومة وليس قبل ذلك، ثم عقده مؤتمره الصحافي في مقر السفارة اللبنانية سوى تعبير عن رغبة في إقامة علاقات صحّية بين لبنان وسورية، علاقات بين دولة ودولة وليست علاقات تقوم على سياسة تهريب السلاح إلى لبنان والسعي إلى تدمير مؤسساته بما يخدم النظام في سورية. ربما كان ذلك يخدم النظام لفترة ما قد تطول أو قد تقصر. لكن مثل هذه السياسة لا تخدم لا لبنان ولا سورية بمقدار ما تحول دون تمكين النظام السوري من الخروج من أزماته العميقة التي يظل أفضل تعبير عنها عدم قدرته لا على الحرب ولا على السلام ولا على مواجهة البناء العشوائي في المدن والفساد في إدارات الدولة، أو موجة التطرف الديني التي تجتاح المجتمع وتغير طبيعته شيئاً فشيئاً.
في النهاية، يمكن لزيارة وليد جنبلاط لدمشق أن تكون ذات فائدة في حال كان هناك من يريد الاستماع إلى ما لديه بشكل جيّد. ولعل أهم ما قاله الزعيم الدرزي في المقابلة التلفزيونية التي ساهمت في التمهيد للزيارة أن لبنان لا يمكن أن يكون وحده في المواجهة، أي أن يبقى laquo;ساحةraquo; وحيدة مفتوحة لإسرائيل ولمن يريدون خوض صراعات معها من عرب وغير عرب. قد يكرر الزعيم الدرزي مثل هذا الكلام في دمشق، كما قد يكون منشغلاً بأمور أخرى. المهم أن تفتح زيارته العيون السورية على أن لبنان ليس في وارد الاستسلام من جهة، وأن المدخل إلى لبنان وإلى قلوب اللبنانيين وعقولهم يكون عبر مؤسسات الدولة اللبنانية، التي تفضل دمشق عدم الاعتراف بها، من جهة أخرى.
ذهب وليد جنبلاط إلى دمشق بعد قوله laquo;اليوم أسامح وأنسىraquo; وذلك تعليقاً على اغتيال والده في السادس عشر من مارس 1977. من حقه أن يسامح وأن ينسى. لا جدال في ذلك. ولكن تبقى المشكلة الأساسية بالنسبة إلى لبنان واللبنانيين هل في استطاعة النظام السوري أن ينسى، أقله أن ينسى أن الاغتيالات لا يمكن أن تكون سياسة وأن السلاح الذي يرسله إلى لبنان لا يبني علاقات بين دولة ودولة، علاقة طبيعية تصب في نهاية المطاف في مصلحة الدولتين والشعبين بعيداً عن أي نوع من الأوهام التي تولدها الاغتيالات والتفجيرات وتكديس السلاح؟