حسن مدن

يجب التمييز بين كلمة وأخرى . ثمة كلمة للحوار وكلمة للعنف . العنف في الأصل هو عنف الخطاب الذي ينتج ممارسة عنيفة بأشكال مختلفة . العنف لا ينشأ من تلقاء ذاته، وإنما ينشأ كنتاج لخطاب يمجد العنف، وتمجيد العنف لا يعني أن يقول أصحاب هذا الخطاب إنهم مع العنف أو يجهروا بالدعوة لممارسته .

وإنما لأن هذا الخطاب يحمل في ثناياه فكرة الإقصاء، إقصاء الآخر، انطلاقاً من الوهم الذي يتجلى في شكل قناعة بتملك الحقيقة المطلقة، الكلية . ومثل هذه القناعة تفترض بالنتيجة أن الرأي الآخر، أو الآراء الأخرى خارج الحقيقة أو ضدها، ولأنها كذلك فإنها مقصاة .

هذا جانب من الأمر، أما الجانب الثاني فإنه داخل في دائرة ما ندعوه بالحوار أو الجدل أو النقاش يمكن أن نميز بين لغتين، حتى داخل الصف الواحد . لغة تتوخى الحوار وتنشده، ولغة أخرى لا تحاور وإنما تهاجم وتقاتل، قوام هذه اللغة هو ما ندعوه عنف الكلمة، وعنف الكلمة بالمناسبة أبلغ تأثيراً وأكثر بعثاً على الأذى من العنف في شكله السافر، لأنه يخلق مناخاً يصبح معه الحوار عصياً . إن عنف الكلمة هو مشارف العنف المباشر في صورته المادية .

وتكمن جذور عنف الكلمة، على الأرجح، في التربية القسرية في مجتمعات اعتادت أن تكون حذرة ووجلة تجاه التعبير المخالف بدءاً من الحلقة الأصغر، حلقة العائلة حيث تسود كلمة واحدة لا تحتمل الجدل والنقاش مروراً بالحلقات المتتالية في المجتمع صعوداً إلى العلاقة بين السلطة ومواطنيها .

إن عنف الكلمة لا يتجلى فحسب في حقل السياسة وحقل الفكر وحدهما وإنما في حقل العلاقات الإنسانية المباشرة، بين البشر والأفراد أنفسهم، حين يمكن لكلمة واحدة أن تبدو جارحة، حادة كالسكين في إلحاق الأذى بمن توجه له، وأن تكون من الرقة والرهافة بحيث تذهب بعيداً إلى عمق روحه .

العنف هو ثقافة قبل أن يكون سلوكاً أو ممارسة . وعنف الكلمة هو التجلي المباشر، الفوري، الأولي لثقافة العنف . وإذا كانت سنة الحياة قائمة على تعدد الأفكار والأهواء والأمزجة والاجتهادات، فإن سنة هذه الحياة ذاتها تتطلب تعايش هذه النقائض في سلام لا برغبة التوفيق بينها فهذا متعذر، ولكن لكي تتواجه وتتعارض لكن بالحوار وحده، لا بالعنف، حتى لو كان عنف الكلمة، إذا أردنا بناء أفراد بتكوين سوي يشكلون قوام مجتمع معافى .