هشام العوضي

ثلاث كلمات لا تطربنا: laquo;الضريبةraquo;، laquo;التجنيد الإلزاميraquo; وlaquo;القومية العربيةraquo;.. الضريبة انقرضت لما تدفق النفط، وأغنى الدولة عن المواطنين، وأفقر المواطنين إلى الدولة.. وlaquo;التجنيد الإلزاميraquo; لما اقتنعنا بأن الجغرافيا فوق السياسة، وأن قدرنا أن نظل نحتاج إلى من يحمينا من الخارج.. وlaquo;القومية العربيةraquo; لما صفعنا على وجوهنا عرب كُثر في أغسطس 1990 باسم العروبة. ومع ذلك تظل قصتنا مع القومية العربية مثيرة للجدل، وتستحق أن تُروى ولاسيما لأجيال لم تعاصر الغزو، فضلا عن أنها لم تشهد المد القومي في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت.

بدأت تجربة الكويت مع الفكر العروبي، إن صح التعبير، مع الشيخ مبارك الكبير، عندما انضم مع مجموعة من أصدقائه، الشيخ خزعل في عربستان، والسيد طالب النقيب في البصرة، إلى حزب عربي يعارض سياسة التتريك القسرية التي كانت تمارسها اسطنبول ضد العرب منذ 1909. وأفضى ذلك إلى أن تقدم الكويت وغيرها من المشيخات دعمها لبريطانيا، على خصمها العثماني، في الحرب العالمية الأولى. كان الفكر القومي عندئذ ردة فعل من النخبة الحاكمة، أكثر منه حالة شعبية.. فالمجتمع كان بعيدا عن تأثيرات القومية العربية التي انطلقت من الشام، وظل، شعوريا على الأقل، مرتبطا بالعثمانيين، وإن كانوا أتراكا.. فالدين وقتئذ كان هو الرقم واحد، واللغة هي الرقم اثنين.

لما تدفق النفط، وانتشر التعليم، ودخلت إلى الكويت الصحف من العراق، والإذاعة من مصر، ومنظرو الفكر القومي من سورية، حصل حراك شعبي، لمصلحة كل دولة عربية تريد أن تفتك من الهمينة الأجنبية، بريطانية أم فرنسية. ولأن الشعور الديني لم يعد يصبّ في وعاء سياسي محدد بعدما تلاشى العثمانيون، وحلّت محلهم الدولة القومية، صارت اللغة، سياسيا على الأقل، هي الرقم واحد، والدين هو الرقم اثنين.

وجاء انقلاب عبدالناصر في 1952 كي يسجل أعلى ارتفاع لأسهم القومية العربية، ليس في مصر فحسب، وإنما في أدق زقاق وأضيق سكيك في الكويت. ولم تكن كاريزما ناصر الشخصية، ولا دعائيات أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب، هما من رسل القومية العربية للكويت فحسب، وإنما طواقم المعلمين الذين وفدوا إلى الكويت، وصاغوا عقلية جيل المرحلة، وحوّلوا قِبلته الى القاهرة. وكان المد العروبي جارفا، لا يقبل أن يجمد أمامه، أو يعانده أحد، لدرجة أن الشيخ عبدالله السالم طرح على البريطانيين في 1958 رغبته في أن ينضم للجامعة العربية، مثلما انضم جده مع خزعل والنقيب إلى الحزب العربي في 1909. وعارضت بريطانيا الرغبة الأميرية، لأنها اعتبرت أن ذلك سيعد انتصارا للناصرية، وهذا آخر ما كانت لندن تتمناه.

ولما انقلب عبدالكريم قاسم على الهاشميين في العراق في 1958 استقبل الكويتيون ذلك بالترحيب، وزاره للتنهئة وفد رسمي وشعبي، إلى أن عقد قاسم مؤتمرا صحافيا بعد أسبوع من استقلال الكويت في 1961 طالب فيه بضم الكويت إلى العراق!! كانت صفعة على خدّ الكويتيين، لكن ظلت القومية العربية تطربهم، لأن ناصر، وباسم القومية العربية التي أساء لها قاسم، وقف إلى جانب الكويت في أزمتها. ولأن الجامعة العربية أرسلت إلى الكويت، باسم القومية العربية، قوات من السعودية ومصر وسورية والأردن والسودان وتونس.

وانتهى قاسم في 1963 ولم تنته علاقة، ولا قصة الكويت مع القومية، وإنما بدأت.. فتم تأسيس صندوق التنمية في بداية الستينيات لتقديم منح وقروض للدول العربية، واستفادت منه عواصم وحكومات مختلفة. وتأسست صحف وجمعيات محلية بهمًّ قومي.

صحيح أن هزيمة 67 ورحيل ناصر في 70 أحبطا أسهم القومية في أسواق العرب، لكنه لم يقض عليها تماما. إذ استمرت القضية الفلسطينية هي laquo;الخيط الرفيعraquo; الذي ظل يربط بين العرب في السبعينيات والثمانينيات، وعلى أساسه منعت الكويت تصدير نفطها للولايات المتحدة والدول المساندة لإسرائيل في 1973. وظلت الساحة المحلية تشهد حراكا على مستوى أنشطة طلابية، وإعلامية، ومجتمعية شكلت وعي أجيال تلك الفترة.. وأتت الحرب العراقية-الإيرانية كي تسجل الحلقة الأخيرة في مسلسل قصة الكويت مع القومية، إذ حلّت laquo;فارسraquo; محل العثمانيين، والبريطانيين، في الحفاظ على توهج الحس القومي، وإن لم يحلّ أحد محل ناصر.

لم تكسر هزيمة 67 القومية العربية في حس الكويتيين، مثلما كسرتها رِدة صدام في احتلاله البلد في 1990. ولم يرتد سياسيا الذي احتل فقط، وإنما كفر سياسيا بالقومية العربية الذين احتلهم.. كانت ردة فعل لا شعورية، وإن طالت واستمرت إلى الآن.. خلال هذه الفترة، وعلى مدى 20 سنة، نشأت أجيال لم تسمع عن القومية العربية إلا كل سوء، فاتخذت منها موقفا. وبينما كانت لاءاتنا في الستينيات هي laquo;لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضاتraquo;، صارت لاءاتنا اليوم laquo;لا ضريبة، لا تجنيد، لا قومية عربيةraquo;.

تمت القصة.. فقل لي أنت: هل تعتبرها نهاية سعيدة؟