فهمي هويدي

تركيا تتوقع صيفاً ملتهباً هذا العام، تحسم فيه قضية الصراع حول المستقبل الذي تخوض بسببه الأصولية العلمانية معركتها الأخيرة.

(1)

يوم وصولي إلى اسطنبول في الثالث من شهر ابريل/ نيسان الحالي، كانت عناوين الصحف تتحدث عن قرار أصدرته إحدى المحاكم بإطلاق صراح 19 من العسكريين المعتقلين على ذمة قضية محاولة انقلاب عسكري انكشف أمره . وفي مقدمة الذين أطلق صراحهم المتهم الأول في القضية، القائد السابق للجيش الأول، الجنرال متقاعد شتين دوغان والقائد السابق للقوات الخاصة الجنرال انجين آلان . في اليوم التالي مباشرة أبرزت عناوين الصحف قراراً أصدرته محكمة اسطنبول أمر بإعادة اعتقال العسكريين الذين أفرج عنهم . في اليوم الثالث كانت صور العسكريين وهم يسلمون أنفسهم تتصدر الصفحات الأولى للصحف . في اليوم الرابع تحدثت عناوين الصحف عن تطور آخر مثير في القضية، خلاصته أن الشرطة نفذت عملية كبيرة للقبض على نحو 90 ضابطاً في الجيش على صلة بمحاولة الانقلاب، إلا أن كبير ممثلي الادعاء في اسطنبول أوقف العملية . كما أنه أقال اثنين من المحققين كانا قد أمرا بشن حملة الاعتقالات التي شملت 14 إقليماً تركياً .

لم يكن ذلك التتابع استثناء، وإنما اعتاد عليه الأتراك، الذين أصبحت مثل تلك الأخبار التي تعكس الصراع الحاصل تطل عليهم كل صباح بين الأطراف الثلاثة: حكومة حزب العدالة والتنمية التي انتخبت ممثلة للسلطة التنفيذية، والجيش الذي نصب نفسه حارساً للعلمانية الكمالية واعتاد أن يمارس سلطة فاقت سلطة الحكومة . والقضاء الذي منح سلطات استثنائية منذ انقلاب عام 1980 بعدما سلمت مقاليده للأصولية العلمانية، لكي يصبح رقيباً ثانياً على أي حكومة منتخبة، إن شئت فقل إن الجيش مثّل طول الوقت عضلات تلك الأصولية في حين أن القضاء كان بمثابة محامي المشروع وعقله القانوني .

أما الحكومة فقد ظلت تقليدياً أداة بيد الاثنين . وطوال السنوات التي خلت كانت مهمة الجيش والقضاء سهلة بصورة نسبية . أولاً لأن الطبقة السياسية التقليدية كانت جزءاً من المشروع العلماني الأصولي، وثانياً لأن الأحزاب التي تعاقبت على السلطة كانت تشكل حكومات ائتلافية بسبب الشيخوخة التي اصابتها، الأمر الذي لم يمكنها من الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان، وهو ما كان يضعف من موقفها، ويعرّضها للسقوط بعد سنتين أو ثلاث من تشكيل ائتلاف الحكم . لكن هذا الموقف اختلف بصورة جذرية حين تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة في عام ،2002 إثر فوزه بأغلبية كبيرة في البرلمان (له 330 مقعداً من 550) . وهذه الأغلبية مكنت الحزب من تشكيل حكومة قوية، مازالت ثابتة القدم في السلطة منذ أكثر من سبع سنوات .

(2)

لأن الجيش كان صاحب اليد العليا في تركيا منذ أسس كمال أتاتورك الجمهورية في عشرينات القرن الماضي، فإن قادته اعتبروا صعود حزب العدالة وبلوغه سدة الحكم بتأييد الأغلبية الشعبية تحدياً كبيراً لهم . وجاء ذلك التحدي على مستويين، أحدهما تعلق بالسلطان والنفوذ والثاني تمثل في التعامل مع العلمانية التي ارادها العسكر مخاصمة للدين كما في فرنسا، وأرادها حزب العدالة متصالحة معه كما في إنجلترا . ولاشك في أن رغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ساعدت حكومة الحزب الصاعد على الثبات في مواجهة ضغوط العسكر، من خلال تقليص الدور الذي يقومون به في الحياة السياسية . وكان ذلك التقليص أحد بنود حزمة الإصلاحات التي دعا إليها الاتحاد لتذليل العقبات التي تحول دون انضمام تركيا إليه . وقد ترتب على ذلك مثلاً أن فقد العسكر أغلبيتهم في عضوية مجلس الأمن القومي، وتساووا مع المدنيين في العدد . أهم من ذلك أن الطريق لم يعد مفتوحاً أمامهم لتغيير الحكومة بانقلاب عسكري، وهي اللعبة التي استساغها قادة الجيش ومارسوها أربع مرات منذ ستينات القرن الماضي . حيث كانوا يطيحون بالنظام باسم درء الخطر الذي يهدد العلمانية ويعينهم القضاء على ذلك بحظر الأحزاب المناوئة وغير المرضي عنها، وربما سجن قادتها .

مع مطلع القرن الجديد، وبعد فوز حزب العدالة بأغلبية مقاعد البرلمان أدرك قادة الجيش أن الظروف الداخلية والخارجية تغيرت في غير صالحهم، ما دعا رئيس الأركان الجنرال الكرباشبوغ إلى التصريح بأن عهد الانقلابات العسكرية انتهى، وأن الجيش ملتزم بقواعد الممارسة الديمقراطية وخيار الشعب .

(3)

هذا الإعلان كان اعترافاً بأن قيادة الجيش تراجعت خطوة إلى الوراء عن دورها التقليدي، وهو ما خيب آمال أركان الأصولية العلمانية من العسكريين والمدنيين (حزب الشعب الجمهوري بوجه أخص) . هنا برز دور الأصوليين في المحكمة الدستورية والادعاء العام، الذين أصبحوا في صدارة المواجهة مع الحكومة . فتم استنفار رجاله الذين حكموا بسجن رئيس الوزراء الحالي طيب أردوغان في الماضي، وسعوا إلى حل حزب العدالة والحيلولة دون ترشح عبدالله جول لرئاسة الجمهورية قبل سنتين . والوقائع التي اشرت إليها في مستهل النص من نماذج ذلك الاستنفار الذي كشف عن التجاذب داخل معسكر القضاة والمدعين، الذين أمر بعضهم بإطلاق سراح ضباط الجيش المتهمين وأمر آخرون بإلقاء القبض عليهم .

المواجهة برزت إلى السطح قبل سنتين، حين فتحت الحكومة ملف منظمة ldquo;ارجنكونrdquo; السرية، التي ظلت توصف خلال العقود الأربعة الماضية بأنها الحكومة الخفية في تركيا . وكنت أحد الذين سمعوا بها قبل ربع قرن، حينما حدثني أحد الخبراء عن أنها تضم خليطاً من غلاة العسكريين والسياسيين ورجال الأعمال والقضاة والمدعين والإعلاميين، وان هؤلاء كانوا نافذين في أجهزة الدولة . ولأن تنظيمهم انطلق من الدفاع عن المشروع العلماني كما بدأه أتاتورك، فإن مختلف القرائن دلت على أنهم كانوا على صلة بالانقلابات التي تمت في السابق، وببعض الاغتيالات التي تمت سواء لإثارة الرأي العام أو لتصفية الحسابات السياسية أو القومية (ضد الإسلاميين والأكراد والعلويين مثلاً)، بل كان لبعض عناصره صلاتهم بتهريب المخدرات والجريمة المنظمة، كما بينت التحقيقات . وقد تصدت الحكومة لذلك الملف الشائك، بعدما تم ضبط مخازن أسلحة في بيوت بعض الضباط المتقاعدين . وتبين أن الذخيرة التي ضبطت مع تلك الأسلحة استخدمت في عمليات اغتيال عدد من النشطاء والشخصيات العامة .

والتحقيق الكبير مستمر في ملف ldquo;ارجنكونrdquo;، إذ حدثت مفاجأة لم تكن في الحسبان . ففي العشرين من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي استيقظت تركيا على وقع قنبلة صحافية وسياسية أحدثت دوياً لايزال يتردد صداه إلى الآن، إذ نشرت صحيفة ldquo;طرفrdquo; التي يقال إنها قريبة من رئيس الحكومة تقريراً مدعوماً بالوثائق تحدث عن مخطط انقلاب عسكري كان سيقوده القائد السابق للجيش الأول (مقره اسطنبول ) الجنرال شتين دوغان . وذكر التقرير أنه بعد وصول حزب العدالة إلى السلطة (عام 2002) تم اعداد ذلك المخطط الذي حمل اسم ldquo;المطرقةrdquo; . ولتهيئة الأجواء لتدخل القوات المسلحة فإن المخطط تحدث عن خطوات لتأزيم الأوضاع في البلاد بما يوحي بأنها مهددة بالفوضى والخطر، في تلك الخطوات تم استهداف اثنين من أهم مساجد تركيا، هما جامع بايزيد وجامع السلطان أحمد بالقنابل أثناء صلاة الجمعة . ثم افتعال أزمة مع اليونان عبر التحرش بها حتى إذا اقتضى ذلك اسقاط طائرة حربية تركية في بحر إيجة، واتهام اليونان بذلك، وهو ما يفترض أن يحرج الحكومة ويرفع من وتيرة الشعور بالخطر، الأمر الذي يسوغ القيام بانقلاب عسكري .

ذكرت صحيفة ldquo;طرفrdquo; أن لديها ما يثبت ويؤيد تقريرها متمثلا في 5 آلاف صفحة من الأوراق، وأصوات مسجلة وأفلام فيديو على أقراص مدمجة (سي . دي) وصور ومخططات وخرائط أولية، كما ان لديها قائمة بأسماء 137 كاتباً وصحافياً سيكونون على علاقة وطيدة بالانقلاب، وأسماء 36 كاتباً وصحافياً سيعتقلهم الانقلابيون، أغلبهم محسوبون على التيار الليبرالي اليساري الديمقراطي ومنهم إسلاميون مقربون من أردوغان وحزبه، وقد نشرت الصحيفة تلك الأسماء . وفي اليوم التالي نشرت أسماء أعضاء الحكومة التي كان سيشكلها الانقلابيون والحقائب المسندة إليهم .

(4)

المجموعة التي ألقي القبض عليها في عملية المطرقة ضمت بعض المدنيين إلى جوار العسكر، وجميعهم لم يكونوا بعيدين عن منظمة ldquo;ارجنكونrdquo; التي اخترقت خلايا مراكز القوة في المجتمع التركي منذ أربعين عاماً . ولذلك فإن معركة الحكومة الحالية معها ليست هينة . ونتائج تلك المعركة هي التي ستحدد مصير جمهورية العسكر الأصولية العلمانية، وكسب المعركة وحده الذي سيفتح الباب لتأسيس الجمهورية الثانية، الديمقراطية التي تكون السيادة فيها للشعب وليس للعسكر .

بعد سبع سنوات من المناورات السياسية والتجاذب على مختلف المستويات، أدركت حكومة حزب العدالة والتنمية أنه لا مفر من تعديل الدستور الذي ldquo;فصّلهrdquo; العسكر بعد انقلاب عام 1980 (صدر في عام 1982) لمعاندة التاريخ من خلال بسط هيمنتهم وإدامة التمكين للأصولية العلمانية . فقد وجدت الحكومة انها ليست قادرة على تنفيذ بعض الإصلاحات التي وعدت بها بسبب القيود التي فرضها ذلك الدستور . فثمة مقاومة لمحاكمة العسكريين أمام المحاكم العادية وإنهاء تدخلهم في الشؤون السياسية، وثمة رفض لإعادة هيكلة القضاء والحد من تسييسه بحيث لا تطلق يده في تعيين المدعين أو حل الأحزاب . وكانت الهيئة العليا للقضاة قد حاولت تنحية القضاة والمدعين العامين المسؤولين عن التحقيق في قضية ldquo;ارجنكونrdquo;، لتمكين بعض المتهمين من الإفلات من العقاب . كما ان المحاكم الإدارية رفضت قرارات مجلس التعليم العالي الخاصة بالسماح للمحجبات بالالتحاق بالجامعات، وتمكين خريجي المعاهد الدينية من دخول الكليات العلمية والفنية . ولهذه النقطة الأخيرة قصة تستحق أن تروى . ذلك أن جميع الراغبين في دخول الجامعات يمتحنون قبل توجيههم إلى الكليات المختلفة . ولكن خريجي المعاهد الدينية وحدهم يخضعون لنظام خاص في احتساب الدرجات، فرضه مجلس التعليم العالي حين كان تحت السيطرة العلمانية، بمقتضاه يخصم 15% من مجموع درجات الناجحين منهم، الأمر الذي يغلق الأبواب في وجوههم للالتحاق بكليات القمة . وذلك ظلم بيّن اشتكى منه الطلاب قبل وصول حزب العدالة للحكم، ولكن المحكمة الإدارية المختصة رفضت آنذاك مساواتهم بزملائهم، وقالت إنها غير مختصة بالموضوع . وحين تغيرت الحكومة، وعين رئيس جديد لمجلس التعليم، صدر قرار بإلغاء ذلك التمييز ومساواة خريجي المدارس الدينية بزملائهم، وعندئذ تحركت الآلة الأصولية وطعنت في القرار أمام المحكمة الإدارية، فقضت بإبطاله وعودة التمييز إلى سابق عهده . وهي ذاتها التي اعتبرت الأمر خارجاً عن اختصاصها في السابق .

(5)

قدمت حكومة أردوغان 26 تعديلاً على الدستور إلى البرلمان تجري مناقشة حامية حولها الآن . وليست هناك ثقة بتمرير التعديل، لأنه يحتاج إلى تصويت ثلثي الأعضاء، أي 367 صوتا من أصل ،550 في حين أن لحزب العدالة والتنمية لديه 330 صوتاً فقط . وإذا لم يمر التصويت، وحسب القانون، فإن التعديل سيعرض على الاستفتاء العام خلال 60 يوماً، في شهر يوليو/ تموز المقبل، ويتوقع المراقبون أن تلجأ المحكمة الدستورية التي يهيمن عليها غلاة العلمانية إلى إصدار حكم بإبطال الاستفتاء . وحينئذ لن يكون أمام الحكومة سوى المطالبة بإجراء انتخابات جديدة يحتكم فيها إلى الشعب في تشكيل برلمان جديد، يطمح الحزب إلى أن يمثل مقعد الثلثين فيه، من خلال أعضائه أو تحالفاته، لكي يمرر التعديلات التي يريدها، وذلك كله يفترض أن يتم خلال أشهر الصيف المقبل، التي يتوقع الجميع أن ترتفع الحرارة فيه إلى درجة الغليان قبل أن تسفر المواجهة الشرسة إما إلى ميلاد الجمهورية التركية الثانية أو إلى اجهاض هذا الأمل .