سعد محيو

الانتخابات في السودان لن تكون البلسم الشافي لأمراض بلد الأربعين مليون نسمة الذي ابتلى منذ استقلاله العام 1956 بفترات قصيرة من الحكم المدني الفاسد، وحقبات مديدة من الحكم العسكري الأكثر فساداً .

صحيح أن هذه الانتخابات كان يفترض أن تكون التتويج لإعادة الهيكلة السياسية التي نصت عليها معاهدة الشمال والجنوب العام ،2005 والتي دعت إلى بناء سودان مسالم وتعددي وديموقراطي، إلا أن هذا لم يحدث . فحبل الأمن بعد خمس سنوات لازال مضطرباً، حيث قضى الآلاف نحبهم في الجنوب كما في بعض مناطق الشمال العام الماضي، وحيث ملايين اللاجئين لازالوا مشردين في دارفور، وحيث المجاعات عادت لتطل برأسها بسبب الفساد ونقص الاستثمارات والجفاف .

ثم إن العملية الانتخابية نفسها، وعلى رغم التهليل الغربي لها، أبعد ما تكون عن كونها عادلة وشفافة . فالتزوير والتلاعب باللوائح يجري على قدم وساق، وأجهزة الأمن تبذل قصارى جهودها لضمان حصول الرئيس البشير على أصوات كافية لوضع شرعيته في مواجهة شرعة محكمة الجنايات الدولية . هذا علاوة على أن النخب الاقتصادية الجديدة في الخرطوم، التي حوّلت الدولة إلى بقرة حلوب، تضع كل ثقل مالها السياسي لشراء أصوات فئات اجتماعية عدة مُفقرة .

هذه الأوضاع تشي بأن السياسات القديمة في هذه الدولة الكبرى في إفريقيا، والتي استندت إلى تحالف الطبقة العسكرية- الأمنية مع منظومات قبلية- استثمارية جديدة، لم تعد قادرة على الاستمرار أو على الامساك بمقاليد الأمور في البلاد . شيء جديد يجب أن يولد . لكن هذه المرة هذا الجديد يجب أن ينبثق من قلب المجتمع لا من الثكنات، أو أمراء الحرب، أو الحركات الأصولية الضيقة .

وهذا ليس بالأمر المستبعد . فالشعب السوداني أثبت مراراً وتكراراً أنه يمتلك قدرة هائلة على التأقلم والتطور . وعلى رغم السيطرة العسكرية المديدة على السلطة، إلا أن رصيده من الحياة السياسية التعددية يُعتبر الأعلى في الدول العربية . فالسوداني ديموقراطي بالسليقة، وميال بطبيعته إلى الحلول الوسط حتى حين تكون للحرب اليد العليا . وفوق هذا وذاك، جاءت السنوات الخمس الماضية بعد توقيع معاهدة السلام لتؤكد أن مختلف فئات الشعب السوداني باتت أكثر استعداداً للانتقال من مرحلة السياسات العنيفة والدموية إلى مرحلة البناء السلمي والديموقراطي .

بالطبع، هذا لا يعني أن السودان أصبح على سكة السلامة . فوضع الجنوب لايزال خطراً للغاية، سواء بسبب الميول الانفصالية الواضحة لرئيسه الجديد سلفاكير أو لأن مخطط الاستفتاء العام الُمقبل قد يرجأ . وسلام درافور باقٍ حبراً على ورق . ومستقبل السلطة المركزية سيبقى في علم الغيب طالما أنه مرتبط بما ستقرره المحكمة الدولية .

بيد أن السودانيين بدأوا يرون النور في آخر النفق المظلم الذي حُبسوا فيه منذ أربعة عقود . وهو نور يقود إلى طريق وحيد: نظام ديموقراطي حقيقي يستند إلى الفدرالية المناطقية والتعددية السياسية .

متى يمكن العبور إلى هذا الطريق، القادر وحده على ضمان استقرار السودان ووحدة أراضيه .؟

قريباً على الأرجح . فحين تكون إدامة الحال الراهن من المحال؛ وحين يكون بديله العنفي هو الانتحار الجماعي بعينه عبر تجدد الحروب والمأسي وتفكك البلاد إلى دويلات متقاتلة حتى الموت، يُصبح المستقبل الديموقراطي الفدرالي هو العملة الوحيدة القابلة للصرف والتبادل .