جورج سمعان

قبل سنوات اعترف الدكتور حسن الترابي علناً بأن سجنه على أثر قيام laquo;ثورة الانقاذraquo; آخر حزيران (يونيو) 1989 كان laquo;تمثيلية من أجل أن يطمئن العالم إلى أن الاسلاميين باتوا في السجنraquo;. وذكّرني بأنه أُخرج من الحكم أيام جعفر نميري، ثم أقيل من وزارة الخارجية في حكومة الصادق المهدي عشية انقلاب الرئيس عمر حسن البشير. ولاحقاً خرج عليه تلامذته ومعهم الفريق البشير لمنعه من تحقيق ما كان يسميه laquo;المشروع الحضاري الاسلاميraquo;. وعاد إلى التاريخ القريب لتأكيد الحساسية حيال مثل هذا المشروع. وقال: laquo;عندما قامت دولة مهدوية في القرن التاسع عشر جاءت بريطانيا وجاءت إيطاليا. وجاء البلجيك من الجنوب والفرنسيون من فشودة، وجاء المصريون في ركابهم، كما جاء علينا الأثيوبيون في ركاب الإيطاليينraquo;.

كان هذا حديثاً من سنوات دخل بعدها الترابي السجن مرات عدة. لم يكن وحده. دخل معه آخرون وأقام بعضهم في المنفى طويلاً وتخفّى بعضهم الآخر حيث أمكنه البقاء بعيداً من عيون الأمن... لكنهم كانوا أمس جميعاً في الانتخابات، في مشهد جديد من الدراما التي لا تنتهي فصولاً منذ ربع قرن. ولن يكون هذا الفصل الأخير. يعرفون سلفاً أن نتائج الاستحقاق لن تغير في الخريطة السياسية. لن يغير فيها إعلان فوز الفريق البشير. ولا إعلان لجان المراقبين الأجانب أن عمليات الاقتراع شابها تزوير وتدخلات من جانب الحكم. ولا رفض المعارضة الاعتراف بالنتائج وعزوف معظمها عن المشاركة في الحكومة المقبلة. ولن تبدل النتائج في المصير المحتوم الذي ينحدر إليه البلد. هذه المرحلة ليست مفصلية وليست منعطفاً. إنها بند من بنود laquo;اتفاق نيفاشاraquo; الذي أُبرم عام 2005 بضغوط أميركية بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم و laquo;الحركة الشعبية لتحرير السودانraquo;. وخطوة في laquo;خريطة طريقraquo; مرسومة ينقاد فيها السودانيون إلى ما لا يرغبون فيه، لا في الشمال ولا في الجنوب، laquo;جنوب جون قرنقraquo; وليس جنوب سيلفا كير ورفاقه ومنافسيه وخصومه.

laquo;خريطة الطريقraquo; واضحة منذ أن أصر الأميركيون، ومعهم الأوروبيون، على إجراء laquo;انتخابات تعدديةraquo; في السودان هي الأولى منذ 1984. لم يلتفت هؤلاء الحريصون على نشر الديموقراطية في العالم إلى مقتضيات الديموقراطية. ولم يصغوا الى اعتراضات المعارضين ولا الى المستمهلين في دارفور الداعين إلى تأجـيل الاسـتحقاق حـتى تـوفير أبـسـط مـسـتلـزمات الأمن وعودة مئات آلاف النازحين. حتى أن سكوت غريشان المبعوث الاميركي الخاص إلى السودان لم يخـجل من الاعـتراف بأن الانـتـخـابات، laquo;حـتى وإن كانت مـعـيبة، ستكـون خـطوة نحــو إرســاء إطـار ديـموقراطي لقوائم الناخبين والـسـلطـات الانتخابية والمراقبين، الأمر الذي سيعزز عملية صنع القرار السـياسيraquo;. إنها أميـركا الـشـريـك الأسـاس فـي laquo;اللعبةraquo; وليست رقيباً حريصاً على النزاهة والحياد وتوفير أجواء صحية تتيح للسودانيين اختيار ممثلـيهم. والخريطة واضحة أيضاً منذ ان هدّد البـشير معارضـيه فـي الشـمال وشـركـاءه فـي الجنوب بالويل والثبور إذا أرجأوا الاستحقاق أو تدخلوا في الاجراءات المرسومة لضمان فوزه وحزبه.

ثمة مصلحة متبادلة بين الأميركيين والحزب الحاكم، على رغم ما بينهما. إنه laquo;تفاهم الضرورةraquo; المستمر منذ قيام laquo;ثورة الانقاذraquo;. تفاهم يقوم على ممارسة واشنطن كل أنواع الضغوط والعقوبات، وعلى استجابة الخرطوم على رغم كل ما يقال عن ممانعتها وعدم اكتراثها. وتكفي نظرة سريعة إلى الوراء لتأكيد هذه الحقيقة. فعندما انقلبت laquo;الجبهة الاسلامية القوميةraquo; على حكومة الصادق المهدي، نهاية حزيران (يونيو) 1989، أخفى الاسلاميون بزعامة الدكتور الترابي صورة الانقلاب الذي قاده البشير. يومها أدخل العسكر زعماء الأحزاب السجن، وبينهم الترابي مهندس laquo;الثورةraquo; ومدبرها! لكن ذلك لم يطل، وبدا أن laquo;المشروع الاسلامي الحضاريraquo; الذي نادى به زعيم laquo;الجبهة الاسلاميةraquo; أقلق الأميركيين والأوروبيين، ومعهم دول الجوار السوداني، عرباً وأفارقة.

أقلقتهم فكرة laquo;تصدير الثورةraquo;... فبدأ الحصار وتوالت العقوبـات على النـظام الـجـديد فـي الخـرطـوم. ولم يتأخر البشير في الانقلاب على الترابي. وكانت القطيعة بينهما في 1999 وزجّ بشيخ الانقلاب في السجن بعدما أُخذ منه معظم تلاميذه الذين اســتهوتـهم لـعبة السلطة. وكان الـنـظام قبل ذلك سـلّم بكثير من الـمـطالـب: سـلّم كـارلوس فـي الـعـام 1994 إلى الاسـتخبارات الفرنـسـية. وبعد ذلك بنـحـو أربـع سنوات أُبـعد أسـامة بـن لادن إلى أفـغانـستـان. وبعـد حرب طاحنة مع الجنوبـيـين انخرط النـظـام تـحت الـضغوط الدوليـة والمحلية في مفـاوضـات مع قرنق زعيم متمردي الجنوب انتهت في 2005 إلى اتفاق نيـفاشا الذي ينص على الانتخابات التعددية التي أُجـريت الاسـبوع الماضي، وعلى حق الجنوبيين في تقرير المصير، في استفتاء العام المقبل.

وخلال كل هذه المراحل تحرك النظام على أكثر من جبهة: لم يترك سلاحاً إلا واستخدمه مع معارضيه في الداخل، من السجن إلى النفي، إلى أجهزة أمنية عرفت كيف تطارد الخصوم، وكيف تفكك النقابات والحزب الواحد أحزاباً. وتكاثرت أعداد المهاجرين السودانيين في بلاد الاغتراب. وخلت الساحة الداخلية من فئات كان يعتد بها وبقدرتها على إحداث التغيير المطلوب. وظل الصراع مع المعارضين بين مد وجزر إلى أن وقعت مآسي دارفور التي حاول حزب البشير أن يشير فيها إلى أصابع خارجية وداخلية، غامزاً هنا من قناة الترابي. وحين اشتدت العقوبات فُتحت الأبواب أمام الصين وماليزيا وأندونيسيا للاستثمار خصوصاً في مجال النفط، الأمر الذي أثار ويثير حفيظة الأميركيين والأوروبيين.

من أجل بقاء النظام، تخلى حزب المؤتمر الوطني عن laquo;مشروعه الإسلاميraquo; وعن كل المحظورات في تاريخ السياسة السودانية. ولا تخفى اليوم معالم laquo;الصفقةraquo; بين النظام وشركائه الجنوبيين والرغبات الخارجية من أجل تمرير الانتخابات. فالرئيس البشير، على رغم كل ما قدم في السابق لم يحظ بالشرعية. بل هو يواجه أداة ضغط كبرى تتولاها المحكمة الجنائية الدولية التي وجّه إليه مدعيها العام لويس مورينو أوكامبو تهماً بارتكاب جرائم حرب في دارفور. وبفوزه المضمون يستعيد شرعية تسهّل له مواجهة المحكمة... التي ستظل سيفاً مصلتاً لاستنزافه وابتزازه.

وكذلك إن الإصرار على إجراء الانتخابات في غياب الحد الأدنى من توافر الشروط الصحية لهذه العملية السياسية، يستهدف، كما عبرت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون صراحة، التمهيد لاستفتاء هادئ في جنوب البلاد. ولا يخفى أن الأميركيين يريدون الحد من نفوذ الصينيين في القارة السمراء. وسواء انفصل الجنوب - وهذا المرجح - أم لن ينفصل، ستجني شركات النفط الأميركية أولى ثمار الدعم الذي وفرته واشنطن لهذا الاقليم طوال سنوات. وهكذا لن تخلو حقول النفط في هذا البلد - ومعظمها في الجنوب - للصين وشركاتها واستثماراتها. وقد أدى الجنوبيون دورهم بامتياز في هذه الصفقة: سحبوا مرشحهم الصوري ياسر عرمان من حلبة المنافسة مع البشير، وذهبوا إلى انتخاباتهم الجهوية في تمرين لما سيذهبون إليه من استفتاء على تقرير المصير.

وتقرير المصير هو العقدة أو الفصل الأهم في هذه الدراما المستمرة. ولا يخفي سيلفا كير وفريق كبير من الجنوبيين الذين عانوا من الحرب ومآسيها، طموحاتهم بالانفصال بخلاف جون قرنق الذي كان يؤمن بأن لا مستقبل للجنوب خارج الوحدة، وأن هذه لا يحميها سوى نظام فيديرالي تتوزع فيه السلطات والثروات بالعدل والقسطاس. بل كان يعتقد بأن حزام الفقر الذي يقيمه نحو نصف الجنوبيين حول العاصمة المثلثة يمكن أن يبدل مستقبلاً في صورة البلد والنظام والعلاقات بين مكوناته الإثنية والطائفية.

مستقبل الجنوب سيبقى الفصل الأكثر إثارة في الدراما السودانية. وعلى رغم أن البشير أبدى استعداداً للقبول بنتائج الاستفتاء، ومثله كل الأحزاب، إلا أن قبولهم بالانفصال لن يكون سهل الهضم. من هنا دعوة الحزب الحاكم، والفائز حتماً، أطراف المعارضة إلى المشاركة في الحكومة المقبلة. ذلك أن البشير لا يمكنه أن يتحمل وحده عبء تقسيم البلاد، خصوصاً بعد سنوات من اتهامه بأنه وراء دفع الجنوبيين إلى هذا الخيار بدل السير في صيغة فيديرالية فضفاضة. فضلاً عن أن جمهوره الاسلامي الذي كان يستحضر له في إعلامه، أثناء الحرب مع الجنوبيين، أنبياء وملائكة للقتال إلى جانبه، سيسائله عن آلاف الضحايا والمآسي والتشريد. ولن يسلّم أهل الشمال بانفصال قد يـدفع ولايـات أخرى إلى المطالبة بتقرير المصير والانفصال أيضاً... ما يعني عودة شـبح الـحرب الأهلية التي لم تغب أصلاً.

ولئن أبقت الحرب مع الخرطوم على شيء من وحدة الجنوبيين، فإن قيام دولة مستقلة لهم ستشعل بين أحزابهم وقبائلهم نزاعات أين منها المواجهات مع الشماليين. وإذا كانت الدولة الجديدة ستعتمد أساساً على النفط، فلن يكون أمامها سوى التفاهم مع الشمال الذي يمتلك المنافذ البحرية والبنى التحتية لهذه الثروة. والتفاهم لن يكون سهلاً فيما جروح الانفصال تنزف. كما أن قيام دولة ليس فيها الحد الأدنى من البنى التحتية سيتحول عبئاً على رعاتها الغربيين وعلى جيرانها. وهؤلاء الذين تحت رماد وحداتهم نزاعات عرقية وقبلية لن يستسيغوا قيام دولة جديدة تنعش أحلاماً وتوقظ طموحات... لذلك على السودانيين أن يخفضوا من سقف طموحاتهم لئلا يتحول بلدهم صومالاً ثانياً في زحمة صراعاتهم على السلطة، وفي حمأة السباق الدولي على القارة السمراء.