مصطفى الفقي
يتساءل كثيرون من خبراء النظم السياسية سؤالاً محيراً لا يخلو من خبث، فهو يدور حول مصداقية الانتخابات في الدول التي تحاول اللحاق بركب الديمقراطية بمعناها العصري، ويعتقد عدد لا بأس به من أساتذة القانون الدستوري وخبراء العلوم السياسية أنه على الرغم من أن نظام الانتخابات هو أفضل النظم حتى الآن للتعبير عن إرادة الشعوب إلا أنه لا يفرز بالضرورة العناصر الأفضل للعمل النيابي، إذ يمكن أن يتفوق شخص عادي على أحد العلماء البارزين وأن يكتسح ldquo;ديماغوجيrdquo; أهوج أفضل المثقفين، ولقد فطن كثير من المتخصصين لهذا الأمر فدعوا إلى المزج أحياناً بين الانتخاب والتعيين لإتاحة الفرصة أمام الكفاءات التي قد لا تكون لها شعبية في الشارع بطبقاته المتعددة وفئاته المختلفة .
ورأى فريق آخر ضرورة اللجوء إلى ldquo;القائمة الانتخابيةrdquo; بدلاً من ldquo;النظام الفرديrdquo; حتى تكون هناك فرصة أفضل لتمثيل الأقليات وتمكين المرأة والدفع بالشباب والعناصر المتميزة فكرياً وعلمياً كي تصبح السلطة التشريعية جهازاً رقابياً حقيقياً يحتوى الكفاءات ويضم الخبرات ويقدم لبلده أفضل ما لديه، وقد رأى فريق ثالث غير ذلك تماماً من منطلق أن اختيار الجماهير مهما كان هو انعكاس للناخبين أنفسهم وهو تأكيد للمعنى المقدس ldquo;من أعمالكم سلط عليكمrdquo; أو النص القرآني الكريم ldquo;لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهمrdquo;، فالذين يفوزون في الانتخابات هم تعبير حقيقي عن المجتمع وجماهير الشعب من دون حاجة إلى مزيد من الفلسفة للدوران حول أفضل أداة ديمقراطية معاصرة، أو الهروب من نتائجها مهما يعتورها من سلبيات ويلحق بها من ملاحظات إذ إنها تبقي في النهاية الأسلوب الأمثل لتحقيق تداول السلطة ودوران النخبة وتفعيل أدوات الديمقراطية الحديثة وتوسيع مساحة المشاركة السياسية للجميع بغير استثناء، والآن دعنا نقلب في تلك الأفكار المتضاربة أحياناً والمتسقة غالباً حول مفهوم الانتخابات وموقعها من قضية الديمقراطية ونوجز ذلك في ما يلي:
* أولاً: إننا نؤكد على حقيقة طرحتها تقاليد الحضارة العربية الإسلامية وتقاليد الحضارة الغربية المسيحية معاً وهي تلك التي تنطوي على أهمية الشورى في الإسلام وانتخاب القيادات بأسلوب الديمقراطية الغربية أيضاً وذلك بدءاً من اجتماع ldquo;سقيفة بني ساعدةrdquo; لاختيار الخليفة الراشد الأول بعد رحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم وصولاً إلى عمليات الاقتراع بمعناها المستحدث وأساليبها التي تعتمد على التقنية الحديثة، ولكننا نعترف في الوقت ذاته بأن الديمقراطية هي ابنة شرعية للثقافة ldquo;الهيلينيةrdquo; في ldquo;اليونانrdquo; القديم وفي إطار دولة المدينة، فلقد قدم ldquo;اليونانrdquo; القدماء في ldquo;أثيناrdquo; وrdquo;أسبرطةrdquo; للبشرية إرهاصات الديمقراطية المبكرة والدورات ldquo;الأولمبيةrdquo; أيضاً .
* ثانياً: ترتبط العملية الانتخابية بالبيئة الثقافية المحيطة والمناخ السياسي القائم ولذلك فإن العملية الانتخابية هي ابنة شرعية للمجتمعات المختلفة بخصائصها وما تملك من مزايا وما تضم من سلبيات، إذ لا يمكن أن نتصور انتخابات شفافة بنظام سياسي متخلف ولا يمكن أن تكون هناك انتخابات فاسدة في دولة تتمتع بأجواء الحرية والاستقرار والسلام الداخلي، إن الارتباط بين صناديق الاقتراع وبين طبيعة النظام السياسي هو ارتباط وثيق لا نستطيع الفكاك منه .
* ثالثاً: إن شيوع الأمية بمعناها المباشر وتهاوي نظام التعليم والفقر الثقافي والتشويش الإعلامي هذه كلها أسباب تحجب شفافية التطبيق الديمقراطي وتؤثر في حرية الناخب وتمس إرادته حتى وإن لم يشعر بذلك مباشرة، إنني ممن يظنون أن العلاقة ليست سلبية بين الديمقراطية والفقر، كما أنها ليست إيجابية أيضاً مثلما هو الأمر في العلاقة بين الديمقراطية والوعي السياسي بمعناه الثقافي والإنساني، فدولة ldquo;الهندrdquo; التي تمثل واحدة من أكبر الديمقراطيات في العالم المعاصر إن لم تكن أكبرها على الإطلاق ازدهرت ونمت برغم الفقر الذي يعاني منه الأغلب الأعم من الشعب الهندي، وأنا أتحدث هنا عن تجربة مباشرة لسنوات أربع قضيتها في أحضان تلك الأمة العظيمة .
* رابعاً: إن الحالة المصرية هي ldquo;نسيج وحدهاrdquo; ولا يعني ذلك أن الديمقراطيات تختلف اختلافاً جذرياً من بلد لآخر لأن هناك قاسماً مشتركاً من العوامل لا يمكن تجاهلها ولكن تبقى مع ذلك خصوصية التجربة وما تتصف به من ميزات قد لا تكون بالضرورة هي تلك الموجودة عند تجارب نظيرة، فالمشاركة السياسية هي نتاج لعاملي الزمان والمكان والتقاء المحورين الأفقي والرأسي، الجغرافيا والتاريخ، يضاف إليهما التراث الاجتماعي ومنظومة القيم والتقاليد التي تدين بها جماهير الناخبين بالولاء والانتماء .
* خامساً: عندما قامت ثورة يوليو عام 1952 نصت في مبادئها الستة على إقامة ldquo;حياة ديمقراطية سليمةrdquo;، ولكن الذي حدث أن تلك الثورة قد خرجت عن إطار التعددية واعتمدت أسلوب التنظيم السياسي الواحد بديلاً للحياة الديمقراطية السليمة، ولقد ساعدت ldquo;الكاريزماrdquo; الشخصية للرئيس جمال عبدالناصر في تعزيز أحادية التنظيم ومركزية السلطة لزعيم كانت شعبيته كاسحة قبل نكسة 1967 .
* سادساً: إن أخطر ما يواجه الحياة الديمقراطية المصرية المعاصرة هو ذلك الخلط المفتعل بين الدين والسياسة، فنحن نرحب بالاشتباك بين الدين والمجتمع، ولكننا لا نتحمس أبداً لخلط الدين بالسياسة، فذلك مزيج مفتعل القصد منه دغدغة مشاعر الجماهير والعزف على أوتار تدينها التاريخي الذي عرفته مصر منذ فجر التوحيد، كما أن الشعارات الاستبعادية للآخر والتي تتصف بأحادية التوجه تلعب هي الأخرى دوراً حاكماً في تقليص مساحة المشترك الثقافي وتقلل من تأثير العامل الإنساني المهم في الحياة السياسية المعاصرة .
* سابعاً: يلعب المال دوراً متزايداً في العملية الانتخابية خصوصاً في العقدين الأخيرين حتى أصبح شراء الأصوات أمراً وارداً في معظم الدوائر الانتخابية، خصوصاً في ظل شهية رجال الأعمال للانضمام إلى مؤسسة البرلمان تمتعاً بالحصانة، ورغبة في توظيف إمكاناتهم المادية لخدمة أهداف تتصل بالثروة وتنمية استمرارها، ولا يعني ذلك أن كل رجال الأعمال على هذه الشاكلة فالأغلب الأعم منهم يسعى لعضوية البرلمان من أجل خدمة الوطن والإسهام في رفع راياته .
* ثامناً: إن ظهور العصبيات الجهوية والانتماءات العائلية وتأثيرها في العملية الانتخابية خصوصاً في الريف والمدن الصغيرة هي الأخرى ظاهرة سلبية في حياتنا النيابية، حتى أصبحت ldquo;البلطجةrdquo; نموذجاً يعتمده البعض للحصول على المقعد النيابي ودعم مواقعهم العائلية والقبلية خصوصاً في الريف المصري وفي الصعيد بوجه خاص .
* تاسعاً: إن الشخصيات ذات التعليم الجيد والمستويات الثقافية المرتفعة تنأى بنفسها عن الهبوط إلى ذلك الدرك المنخفض الذي تصنعه أجواء الانتخابات، وبذلك تختفي الكوادر المطلوبة للعمل التشريعي والرقابي في ظل رؤية سياسية واضحة، كما أن الذي يحدث فعلياً هو أن مصر تعاني من ضعف النظام الحزبي، فالكوادر قليلة والتربية السياسية شبه منعدمة وعلينا أن نقبل بالواقع مهما كانت صلتنا بالماضي والحنين إليه .
* عاشراً: لم تعرف مصر الحزب السياسي الواسع الانتشار الذي يبدأ صعوداً من القواعد مثلما حدث مع حزب الوفد المصري في الفترة الليبرالية بين الثورتين (19 1952) وهو الأمر الذي ما زالت تعيش على رصيده أحزاب سياسية وتجمعات شعبية، ويرى البعض، خصوصاً أساتذة القانون الدستوري، أن ضعف الأحزاب هو تعتيم على حق الأغلبية ومصادرة على الرأي بل وحرمان من الحقوق السياسية في مجملها .
هذه ملاحظات عشر ندخل بها فضاء ساحة الانتخابات العامة المنتظرة، ونحن ندرك أكثر من أي وقت مضى أهمية السعي الجاد لترسيخ الديمقراطية الحقيقية التي هي الخلاص الوحيد لأمة تراكمت عليها أحداث التاريخ وعطلت مسيرتها أصداؤه الواسعة، إن الانتخابات النيابية والرئاسية هي اختبار لقدرات الديمقراطية المصرية حتى نستطيع أن نباهي بأجواء الحرية في ظل أحاديث لا تتوقف عن المستقبل واحتمالاته المختلفة وإرهاصاته التي تبدو في الأفق القريب .
التعليقات