جهاد الخازن


السياسة لا تستحق اسمها إذا لم تكن سياسة الممكن أو real politic كما هي بالمفهوم الألماني الذي أطلقه المستشار أوتو فون بيسمارك مع إدراكي انها قد تمارَس بمعنى power politics أو سياسة القوة على الطريقة الأميركية كما حاول الألماني الآخر هنري كيسنجر.

إيران تمارس اليوم سياسة القوة من دون ان تكون لها القوة الكافية لفرض سياستها على أحد، بدل ان تمارس سياسة الممكن فلا يموت الذئب المستهلك للنفط، ولا تفنى الغنم المنتجة.

إذا أراد القارئ ان يعرف الفارق بين السياسة الصحيحة والخاطئة فما عليه سوى متابعة السياسة التركية بقيادة رجب طيب أردوغان وعبدالله غل والسياسة الإيرانية بقيادة آية الله علي خامنئي والرئيس محمود أحمدي نجاد.

أكتب على خلفية موافقة إيران على شحن 1200 كيلوغرام من اليورانيوم الى تركيا لرفع درجة تخصيبها الى 20 في المئة أو ما يكفي لتشغيل مفاعل يجري تجارب طبية قرب طهران. الاتفاق الذي عقده أردوغان والرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا مع أحمدي نجاد في طهران أثار رداً سلبياً اسرائيلياً لإصرار ايران على التخصيب وشكوكاً أميركية. الاتفاق هو نفسه الذي قبلته ايران ثم تراجعت عنه بعد اجتماعها مع الدول الست في جنيف ثم فيينا، فقد نص الاتفاق السابق على ان تسلّم إيران 1200 كيلوغرام يورانيوم من أصل 1600 كيلوغرام لديها، أو 75 في المئة، الى روسيا وفرنسا، لرفع درجة التخصيب الى 19.75 في المئة، من خمسة في المئة هي كل ما حقق الإيرانيون حتى الآن.

لا أدري إذا كانت إيران ستلتزم هذا الاتفاق او تجد سبباً للتراجع عنه (وأنا شخصياً أتمنى ان يكون عند ايران سلاح نووي في وجه إسرائيل إلا أنني أكتب هنا عن الموجود لا تمنياتي). ثم أراجع نشاط حكومتي تركيا وإيران في الأشهر الأخيرة، ولا أملك إلا ان ألاحظ الفارق الهائل في الفهم السياسي والقدرة على التعامل مع القضايا الشائكة، وعدم إدراك الممكن والمستحيل.

في الأشهر الأخيرة زار أردوغان ايران ووقّع اتفاقاً على الغاز قبل ان يعود إليها لانتزاع الاتفاق النووي. وأجرت تركيا مناورات عسكرية مع سورية بدل إسرائيل، ما جعل الإسرائيليين يبدون تخوفهم من انتقال أسرارهم العسكرية الى سورية. وعقدت تركيا اتفاقاً مع أرمينيا ينتظر موافقة برلمانها على رغم تاريخ توتر العلاقة بين البلدين، وزار أردوغان اليونان لفتح صفحة جديدة معها، كما زار الرئيس غل افريقيا على رأس وفد من 150 مسؤولاً ورجل أعمال، وتنشط الحكومة التركية في مصر وسورية وكل بلد عربي لعقد تحالف تركي - عربي ضد إسرائيل، كما ان وزير الخارجية أحمد داود اوغلو زار إيران لبدء المفاوضات النووية، وكان قبل ذلك استقبل الدكتور أياد علاوي في أنقرة.

في الفترة نفسها تقريباً، أعلنت إيران في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عزمها على بناء عشرة مفاعلات نووية جديدة، وقالت ان العمل في اثنين منها سيبدأ في آذار (مارس)، وعادت الشهر الماضي فأعلنت، من دون طلب من أحد، ان الرئيس أحمدي نجاد وافق على موقع جديد لم يحدد لبناء مفاعل للتخصيب النووي، وهي أجرت مناورات عسكرية أقلقت جاراتها عبر الخليج، وتحدثت عن صواريخ جديدة، فيما كان الأميركيون (وأنا لا أصدقهم)، يرصدون الحدود مع العراق، ويزعمون تهريب متفجرات وأجهزة تفجير وصواريخ عبرها، ويتحدثون عن إطلاق حرية قادة القاعدة في دخول إيران والخروج منها، وعن تحركات سيف العدل وغيره من المتهمين بالإرهاب.

ما سبق ليس سياسة بل مراهقة سياسية، وما أسوأ منه هو دعوة آية الله محمد باقر خرازي الى إيران كبرى، على نمط إسرائيل الكبرى تلف الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. والشبه الإيراني - الإسرائيلي هنا يتجاوز الأحلام، فكما ان اسرائيل الكبرى أو الصغرى لم توجد يوماً، فإن الامبراطورية الفارسية المقابلة لا تتجاوز أحلام دعاتها.

وآخر ما سمعنا من الســـياسة الإيرانية الرشيدة طلب برلماني إيراني تعويضات من العراق عن حرب الخليج الأولى. وثمة ردان أقدمهما لنسف هذا الطلب المستحيل، الأول ان ايران الثورة أعلنت رسمياً ان سياستها تصدير الثورة الإســـلامية وصـــدام حسين بالتالي كان يدافع عن نفسه، والثاني ان هناك مبـــدأ معروفاً في القانون الدولي هو ان الحكومة الشرعية التي تتبع نـــظاماً غير شرعي في بلد ليست ملزمة بدفع ديونه، ونظام صدام حسين كان غير شرعي بإصرار إيران نفسها، والحكومة الحالية شرعية أيضاً باعتراف طهران مع بقية العالم.

ونقطة أخيرة من عندي: المرجعية الشيعية في العالم هي للنجف لا لقم، ولآية الله السيستاني لا لآية الله خامنئي، وكل حديث غير هذا مكابرة، ودليلي على الفارق بين السياستين التركية الحكيمة والإيرانية الهوجاء، فلعل السياسة العربية تتعلم أصول اللعبة من الحلفاء الجدد في الشمال.