سليمان تقي الدين

تواجه العروبة تحديات كثيرة . لكن أخطر تلك التحديات ما تواجهه مع وعيها لذاتها وتعثّر مشروعها السياسي . الخطر الطائفي أو المذهبي أو التقابلي بين العروبة والإسلام . أو الأقوى المتميّز داخل المكان العربي، هذه ليست إلاّ مظاهر لفراغ لا تشغله العروبة المعاصرة، أو لوهن في حيوية وقوة ومناعة عناصر الولاء والانتماء إلى فضاء العروبة . إذا كانت هذه اخطاراً وتحديات فهي ليست من خارج ولا يجوز أن ننظر لها كهويات ضدّية آتية من زمن أو مكان آخر .

إذا كانت العروبة هي الرابطة التاريخية الثقافية أو الحضارية فهي عاشت في التاريخ وليس ضد التاريخ . جاءت من مصادر وروافد عديدة، ثم صارت وديعة الإسلام قروناً طويلة، وتمايزت عنه بوصفها مشروعاً سياسياً حديثاً أو معاصراً . المسيحية عاشت في كنف العروبة، والإسلام أول ما انتسب إلى لغتها وأهلها ولم يبرح يوماً حضنها الدافئ وقد أضاف اليها ولاء وثقافة شعوب وجماعات أخرى . ولم تخرج العروبة إلى رسم حدودها والدفاع عن حياضها إلاّ حين صار الإسلام مشروعاً سياسياً عاجزاً، محمولاً على قوائم القومية العثمانية أو الطورانية التركية .

الطائفية التي نستحضرها كإحدى الأخطار على العروبة هي حصيلة نمو مرضي أو ممسوخ لحركات مذهبية (فكرية أو فكروية) صارت تتمذهب، تتعصب أو تتصخر، إما لانغمادها وانغلاقها أو كبتها، أو لأنها تحولت إلى منظومة تغلب على علاقات فئة من الناس تقاوم بها ومن خلالها للدفاع عن استقلالها أو عن موقعها في إطار نظام سياسي واجتماعي سائد أقوى منها أو مسيطر عليها أو لاغٍ لها .

لن نذهب بعيداً في التاريخ لأن المسألة التي نواجهها اليوم صارت مسألة في زمن انحسار العروبة وضعفها أمام هجمة استعمارية متجددة، وأمام كيانات تموضعت العروبة فيها في شكل أنظمة سياسية واجتماعية جعلت العروبة شرعيتها لكنها لم تحترم شرعية العروبة . ليس فقط لأنها لم تنجز تحريراً كاملاً واستقلالاً حقيقياً واستطراداً وحدة على أي شكل من أشكال الوحدة، بل لأنها أنتجت من القطرية تضادات عربية، أي الحروب والنزاعات والتعارضات، وأنتجت فوق ذلك انكساراً آخر للعروبة لأنها لم تتوافر على وحدة وطنية حقيقية أساسها الدولة كمجال عام ومصلحة عامة مجرّدة لمواطنين أحرار .

إذا صارت العروبة ايديولوجية (مغلقة) لمنظومة اجتماعية طبقية أو جهوية أو فئوية وتجسدت في مؤسسة سياسية، فهي بذاتها نابذة لما عداها لاغية لمداها كهوية جامعة وكرابطة ينهض عليها . حضور الإنسان العربي، أو الشاغل للمكان العربي والمساهم في بناء الوجدان لغة وثقافة ومشاركة في النشاط الاجتماعي والسياسي .

لم تخرج العروبة أصلاً من ملابسة التعريف السلبي تجاه آخر عثماني أو أوروبي أو غربي استعماري أو صهيوني، فصارت في زمن آخر عروبيات مفصلَّة على مقاس كيانات، ومن بعد على مشاريع سياسية تقدمية أو رجعية، واقعية محافظة أم ثورية، معتدلة أم ممانعة .

هكذا حين صارت العروبة مشاريع سياسية مختلفة لأسباب تاريخية واجتماعية أول ما انقلبت على مكوناتها، فصرنا نستعيد ثقافة فرعونية أو فينيقية أو كنعانية أو بيزنطية أو سريانية أو فارسية في أثواب هويات كيانية جغرافية حيناً وثقافية ودينية ومذهبية أحياناً أخرى .

حين صعدت القومية العربية مع القوميين العرب بعثيين أو ناصريين أو يساريين تصدوا لمهمة التحرر الوطني، لم نكن نحسب هذه التحديات (الطائفية والدينية)، فلم تواجه طوائف ومذاهب ولا حتى إثنيات . واجهتها قوى التخلّف والتبعية، الأنظمة الرجعية والطبقات ونخبها المتعاملة مع الاستعمار لذا لا يجب أن نشعر بالإحباط . بل قبل ذلك حين كانت العروبة تخرج إلى الوعي السياسي بأهمية الاستقلال والوحدة كان في مكوناتها الأساسية ما صرنا نسميه، مع حال النكوص، أقليات إثنية أو دينية أو طائفية . فلم يطعن أحد في عروبة قبائل الحجاز مع ثورة الشريف حسين ولا في عروبة ثورات الطوائف والقبائل في بلاد الشام مع سلطان الأطرش، ولا إبراهيم هنانو وصالح العلي ومؤتمر وادي الحجير الجنوبي الشيعي وأدهم خنجر وانتفاضات بلاد بعلبك وبلاد العلويين ووادي التيم والغوطة ولا نخب المدن في دمشق وحلب وحماه وحمص وطرطوس والبصرة، ولا مؤتمر الساحل اللبناني كان ذلك في عهد العروبة القطرية التقليدية . بل لم نكشف هوية الذين عُلِّقوا على أعواد المشانق في بيروت والمرجة من قبل جمال باشا ولم نتحفّظ لحظة على مؤسسي الحركات القومية الحديثة العقائدية ولا مفكريها، الذين كانوا في معظمهم من البيئات التي صارت اليوم بيئات طوائفية .

لقد كانت تلك الأقليات الأكثر تهميشاً اجتماعياً في العهدين العثماني والانتدابي، فكانت ترى في العروبة ما يُفترض أن تكون بعداً ديمقراطياً اندماجياً علمانياً وتحريراً تنموياً .

لا نقارب فكرة العروبة إلاّ وفي صلبها المشروع الارادوي كإطار للتقدم الإنساني . لا نستخدم سيفها الصَدِئ بل المصقول بماء العصر وعناصر قوته . فإما عروبة خضراء قابلة للحياة وللنمو، وإما عروبة تيبَّست في قوالب الفكر الدوغمائي التبريري الماضوي الموروث المحنط .

قضايا العروبة في مواجهة التحديات المعاصرة، فإذا هي التي تعيد فلسطين إلى جدول أعمالها لأن مسألة فلسطين دليل على العجز العربي، والاستقلال السياسي المبني على اقتصاد الإنتاج، المنافس المتحدي، والمعرفة المبدعة، والتي تعيد طرح المشروع العربي كطوبى جاذبة لاتحاد العالم العربي كتحول في مسار القوة . وإلى نظام عربي قادر على إدراج غنى تنوعه الإنساني وثقافاته الفرعية وتعدد مصالح فئاته الاجتماعية في مشروع إنساني أصيل .

لم تكن الأقلية يوماً ولن تكون إثنية أو طائفية أزمة لأمة، إلاّ لأن الأمة في أزمة . ولن تكون الطائفية خطراً إلاّ اذا كانت العروبة في عطالة من أمرها عاجزة عن الاتساع والانفتاح والتناغم في عزف نشيد واحد بأصابع متعددة .

خضنا معركة عروبة لبنان منذ أربعة عقود، لم نكسر الطائفية بل أعدنا إنتاجها في صيغة مذهبية أدنى . التعريب الرسمي الذي فتح الأزمة اللبنانية على التدويل فشل في أن يبني عروبة طوعية ننتمي اليها لأنها عنصر اللحمة الأساس للوطنية اللبنانية . إما أن تتوطن العروبة في المواطنة أو تتحول إلى تعريب قسري تنفضّ عنه القوى التي تجد مصالحها كجماعات أيا كانت مسمياتها وهويّاتها في مواجهته .

تتعاظم الهويات الفئوية وتحديداً الطائفية حين ترفدها محرضات المصالح وتجعل منها قنوات لاستيفاء الحقوق أو لتوزيع الدخل الأهلي أو تتحول إلى وسيلة من وسائل السلطة السياسية . لقد نسخنا النموذج العثماني في غير زمانه وفي غير شروطه فلدينا مجتمعات امبراطورية تعددية نديرها بمركزية سياسية تتعايش مع تفاوتات اجتماعية وانشقاقات جهوية أو ملّية . لم نعرف النموذج القومي البسماركي ولا النابوليوني ولكننا في الممارسة السياسية لم نعرف نموذج الثورة الديمقراطية . في النموذجين اللبناني والعراقي اللذين يصدّران رياح الطائفية هناك ليبرالية مخترقة بامتيازات وحرمانات طائفية في لبنان، ومركزية سياسية شمولية في العراق الأكثر غنى وتقدماً اقتصادياً تستخدم التعريب كهوية حصرية .

ولأن العروبة السياسية هذه لم تعد تسعف في إدامة وحدة المجتمعات الوطنية ضخخنا في شرايينها الإسلام السياسي الأصولي، وحاولنا أن نقيم تعايشاً يستحيل بين هويتين سياسيتين . فإما دولة العروبة، وإما دولة الإسلام . أما دولة العروبة فالإسلام الثقافي كدين أكثرية السكان، من مكوناتها الأساسية . أما دولة الإسلام السياسي فالعروبة أضعف روافدها ومكوناتها، لأنها جماعة تنفض جماعة أو قواعد الاجتماع السياسي الحديث العربي أو المسلم هما معطيان موروثان، أما العروبة للمستقبل فهي مكتسب وفعل انتماء والتزام واختيار . فهل نتابع مع العروبة صناعة المستقبل أم نتابع مع الإسلام السياسي الدولتي (الدولة بهوية دينية) إنتاج الماضي . تلك هي المسألة؟