علي محمد فخرو

دعنا في دول مجلس التعاون نستذكر العنوان الانتخابي الذي طرحه منذ سنوات الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش: السعي إلى بناء مجتمع من أصحاب الممتلكات، وتبعه بعد ذلك غلاة الليبرالية الجدد في إنجلترا وأوروبا . كان الشعار في ظاهره شعاراً نبيلاً، إلى أن تبيّن بعد حين أن الهدف الخفي من وراء طرح ذلك الشعار كان تعزيز النظام الرأسمالي من خلال إقناع الأسر الأمريكية بضرورة امتلاك مساكنها، حتى إذا ما اقتنعت بعفوية بذلك الشعار اندفعت في عملية الاقتراض والاستدانة لشراء مساكنها، ثم دخلت بعد ذلك في عملية بيعها لجني الأرباح، وهكذا يتم تحريك سوق العقارات، ويقوى نشاط المؤسسات المالية، فتزيد أرباحها .

وقد ترافقت مع تلك الحملة مجموعة حملات إعلانية لدفع الناس نحو الاستدانة من أجل كل أنواع الاستهلاك، بدءاً بالضروري وانتهاء بالاستهلاك النهم العبثي لرموز البذخ والرفاهية والوجاهة الاجتماعية . ودخل السوق العولمي، ومعه العالم كله، في دوامة الرهون العقارية وغير العقارية لينفجر الوضع برمته في أواخر عام 2008 في شكل أزمة مالية عولمية، ذاق الجميع مرارتها .

كان أحد أهم أسباب الأزمة هو غياب رقابة مختلف أجهزة الرقابة، وأحياناً فسادها بسبب هيمنة المال على السياسة . من هنا المحاولات المتكررة والخجولة في الغرب لوضع ضوابط جديدة وخلق مؤسسات رقابة إضافية لضبط أمور البورصات ونشاطات الاستثمارات المالية وحركة الرأسمال العولمي . إن هذه المقترحات الجديدة، من مثل نظام الرقابة على ldquo;وول ستريتrdquo; الذي أقره الكونجرس الأمريكي مؤخراً أو بعض المقترحات الألمانية لحماية اليورو، لا يقصد بها فقط الحقل المالي المتأزم وإنما يقصد بها، بصورة خفية، الحقل السياسي الذي وقع تحت هيمنة المال بصور مختلفة وصار أداة من أدوات الفساد المالي العولمي .

السؤال المنطقي: هل سيستطيع مجلس التعاون، بدوله مجتمعة، أن يستفيد من هذا المشهد العالمي الذي لا يزال في بداية سيرورته، ومرشحاً لتغيرات إضافية كبرى؟ الجواب هو أن هناك سوء فهم، وأن هناك إشكاليات .

الإشكالية الكبرى هي التشابك القوي الأكثر في العالم بين القائمين على أمور السياسة والحكم، وبين مؤسسات ونشاطات السوق الاقتصادي والمالي . كثير من الذين يديرون أمور الدول، يشاركون في الاستثمارات، وهذا لا يمكن إلا أن يؤدي إلى تردد، إن لم يكن محاربة، لوضع ضوابط رقابية صارمة لحركة السوق والمال .

أما سوء الفهم فهو يمتد إلى كثير من الأمور . مثلاً، إن الهدف من المشاريع الاقتصادية هو خلق فرص عمل للمواطنين، لكن الوضع في مجلس التعاون هو إيجاد مشاريع تنتهي بخلق فرص عمل للعمالة الأجنبية غير العربية . وكثير من تلك المشاريع توجد لأنها ستدرّ أرباحاً .

هكذا مضاربات عقارية تؤدي إلى ارتفاع جنوني في أسعار الأراضي والعقارات . وهذا بدوره يؤدي إلى عدم قدرة المواطن العادي على اقتناء أرض، ما يضطره للدخول في لعبة الاقتراض والاستدانة التي دخل فيها الآخرون واكتووا بنارها .

مثل ثالث هو الدفع المجنون، الذي تسهم الدول الخليجية بجزء منه، لخلق مجتمع استهلاكي عبثي على حساب الاقتصاد الإنتاجي وعلى حساب التوفير المجتمعي . إن ذلك تقليد أعمى للمجتمعات الرأسمالية الأخرى . إن تلك المجتمعات تشجع الاستهلاك الكبير لما تنتجه في الأساس، بينما نستهلك نحن ما ينتجه الغير . والنتيجة هي فشلنا المريع في بناء اقتصادي انتاجي معرفي وانغماسنا في حرق الثروة البترولية المؤقتة .

للمرة الألف نقولها إن الأزمة المالية الأخيرة يجب أن تكون مناسبة لاستيعاب دروس الآخرين من جهة وللحفر بجدية في بناء فكر اقتصادي يتوجّه نحو تغييرات جذرية في ممارساتنا الاقتصادية الحالية، وذلك قبل أن تضيع علينا الفرصة التاريخية التي تمر في سمائنا مرّ السحاب العابر غير الممطر إلا الرذاذ الذي لا يكفي لإنعاش أرض الحضارة والتقدم .