محمد جميح
ترجم مصطلح laquo;الجهادraquo; في الدراسات الاستشراقية إلى laquo;الحرب الدينيةraquo; (Religious War) أحيانا، وأحيانا إلى laquo;الحرب المقدسةraquo; (Holy War)، وأحيانا نقلت الكلمة العربية laquo;جهادraquo; إلى اللغة الإنجليزية باسم laquo;Jihadraquo; لدى بعض الدوائر الاستشراقية التي ارتأت عدم قدرة المصطلحين السالفين - laquo;الحرب الدينيةraquo; وlaquo;الحرب المقدسةraquo; - على نقل مفهوم laquo;الجهادraquo; في اللغة العربية. وعلى الرغم من أن بعض الدارسين نقلوا كلمة laquo;جهادraquo; إلى اللغة الإنجليزية مستخدمين الحروف اللاتينية، فإنهم رغم عملية النقل هذه (Transliteration) قد حمّلوا الكلمة العربية دلالات وإيحاءات المصطلحين الغربيين بأبعادهما الدينية والفلسفية.
والإشكال القائم في الترجمة أو في النقل هو أن كلا المصطلحين في اللغة الإنجليزية يحوي كلمة laquo;Warraquo;، حرب، بينما لا يستعمل القرآن مصطلح laquo;الجهادraquo; ليعني مفهوم الحرب حصرا، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن التراث الإسلامي لم يعرف المصطلحين الغربيين: laquo;الحرب الدينيةraquo; وlaquo;الحرب المقدسةraquo;، هذين المصطلحين المرتكزين أساسا على التراث الكنسي في نسخته الغربية. ثم إن المصطلحين الغربيين يحيلان إلى دلالات الحروب التي تقوم من أجل الدفاع عن الأديان ونشرها بين أكبر عدد من الناس، وقد ارتبطا في الفكر الغربي بـlaquo;الحروب الصليبيةraquo; التي شنتها أوروبا الكاثوليكية على الشرق الإسلامي تحت ذريعة دينية هي استعادة الأراضي المقدسة - بما فيها القدس - من أيدي المسلمين laquo;أعداء المسيحraquo;. كما ارتبط المصطلحان بالحروب الدينية التي كان يشنها الملوك المسيحيون بعضهم ضد بعض، ضمن المذهب نفسه أو من المذاهب الأخرى في العصور الوسطى.
وبما أن مصطلح laquo;الجهادraquo; قد ترجم - خطأ - إلى مصطلحين يحويان كلمة laquo;الحربraquo;، فإن المعنى الحربي للجهاد هو الذي ساد وعمّ - عن غير قصد في قليل من الأحيان، وبقصد في أحيان كثيرة - في الدوائر الأكاديمية والسياسية الغربية على الرغم من التمييز الواضح بين مصطلحي: laquo;الحربraquo; وlaquo;الجهادraquo; في الاستعمال اللغوي القرآني.
وكنتيجة لالتباس مصطلحي laquo;الحربraquo; وlaquo;الجهادraquo;، يؤكد برنارد لويس على ارتباط مفهوم laquo;الجهادraquo; بالأعمال العسكرية التي امتدت من بداية ظهور الإسلام واستمرت في ما بعد حتى اليوم من أجل بسط سيطرة الإسلام ومد نفوذه.
ويضيف ديفيد كوك أن مصطلح laquo;الجهادraquo; ارتبط بالمفهوم الحربي للكلمة، وأن الذين يقولون إن للجهاد معاني أخرى إنما هم نفر من الاعتذاريين المسلمين الذين يريدون فقط تحسين صورة الإسلام، حسب فهمه.
وفي الموسوعة ذائعة الصيت ويكيبيديا نقرأ الآية القرآنية: laquo;فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًاraquo;، ونقرأ تعليقا عليها أن الآية laquo;تجيز استخدام العنف ضد غير المسلمينraquo;، مع أن مفهوم الجهاد في الآية المذكورة أقرب إلى الجهاد الدعوي القائم على المجادلة والإقناع المنطقي.
من غير شك أن تكريس القول بارتباط مصطلح laquo;الجهادraquo; بالأعمال القتالية فقط دون النظر إلى أصل المعنى اللغوي للكلمة العربية، الذي يعطي للمصطلح أبعادا أخرى، هذا التكريس مقصود منه إبراز المصطلح في مفهومه القتالي فقط لأغراض استشراقية تتمحور حول هدف إبراز الصورة النمطية للمسلم في الوعي الجمعي الغربي، تلك الصورة التي يظهر فيها المسلم ممتشقا سيفا أو متشحا حزاما ناسفا. وقد حدا هذا بدانيال بايب - وهو أحد الاعتذاريين الإسرائيليين في الولايات المتحدة - للربط المباشر بين مصطلحي laquo;الجهادraquo; وlaquo;الإرهابraquo; عندما أشار إلى أن laquo;الجهادraquo; هو laquo;المصدر الأول للإرهابraquo;، كما ورد في موسوعة ويكيبيديا أن مصطلح laquo;الجهادraquo; يشمل كذلك laquo;الإرهاب الإسلاميraquo;.
وقد أدلت وزارة العدل الأميركية بدلوها في هذا الشأن بالقول بأن الجهاد laquo;هو الكلمة العربية التي تعني laquo;الحرب المقدسةraquo;، وهذا يعني laquo;استخدام العنف والأعمال العسكرية ضد الأشخاص والحكومات التي يرى الأصوليون الإسلاميون أنها معاديةraquo;، ويشمل laquo;الجهادraquo;، حسب التوصيف السابق: التخطيط والإعداد والاشتراك في الأعمال التي تشتمل على العنف الجسدي وأعمال القتل والتدمير والاختطاف واحتجاز الرهائن.
هكذا إذن انتهت رحلة laquo;الجهادraquo; في الأدبيات الأكاديمية والإعلامية والسياسية الغربية إلى تطابق مفهومه مع مفهوم laquo;الإرهاب العالميraquo;، وهو ما يتنافى مع الأصل اللغوي لكلمة laquo;جهادraquo; في اللغة العربية، كما يتنافى مع الأدبيات التي وضعت للجهاد بمعناه القتالي عند الفقهاء المسلمين، والتي منها عدم قتل الشيخ والطفل والمرأة، وعدم قطع الشجر وحرق المدن والقرى، وعدم التعرض لرجال الدين من الأحبار والرهبان، إلى غير ذلك من أدبيات الجهاد عند المسلمين.
وقد ساعد على هذا الخلط بين مصطلحي laquo;الجهادraquo; وlaquo;الإرهابraquo; عوامل عدة، من بينها الخلل في الترجمة وسوء النية المبيّت، دون أن ننسى الدور الكبير الذي لعبته كثير من المجاميع المقاتلة التي تسمت بهذا الاسم في العالم الإسلامي، دون أن ترقى إلى المستوى الأخلاقي للمصطلح في نسخته القرآنية النبوية على السواء. ذلك المستوى الذي لخصته الآية: laquo;وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَraquo;، والمبني أساسا على المعنى اللغوي لكلمة laquo;جهادraquo; التي تعني لغة laquo;بذل الجهدraquo; بالمعنى العام لهذا الجهد الذي يتطرق إلى الأعمال المدنية والتعبدية والقتالية، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال حال رجوعه من إحدى معاركه: laquo;رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلى الجِهَادِ الأَكْبَرِraquo;، في إشارة واضحة إلى أن الجهاد الأكبر هو مجاهدة النفس في طريق الخير، وهو ما يمكن أن يطلق عليه مصطلح laquo;الجهاد المدنيraquo;، حيث يتسابق الناس إلى البناء الخلقي والقيمي والمدني، وهو بلا شك أصعب أنواع الجهاد.
التعليقات