خيرالله خيرالله

كانت نتائج الانتخابات البلدية في مدينة صيدا اللبنانية، مسقط رأس الرئيس الشهيد رفيق الحريري مؤشرا في غاية الاهمية. كشفت النتائج التي انتهت بفوز قوى الرابع عشر من اذار انه حيث هناك انتخابات في ظروف طبيعية، هناك انتصار للقوى التي تؤمن بالسيادة والحرية والأستقلال.
لا يريد اللبنانيون العودة الى نظام الوصاية في اي شكل وهم يقاومون التبعية. تلك رسالة انتخابات صيدا، ثالث اكبر مدينة في لبنان، وهي مدينة مختلطة بامتياز سعى رفيق الحريري، رحمه الله، الى تكريس العيش المشترك فيها. لم يؤيد احرار صيدا اللائحة التي تمثل الحرية والسيادة والاستقلال فحسب، انما ايدوا ايضا مشروع اعدة البناء والأعمار والتنمية الذي عمل من اجله رفيق الحريري. ما شهدته صيدا لم يكن حدثا عابرا. ما شهدته صيدا كان دليلا على وجود رغبة لبنانية في الصمود والمقاومة، مقاومة ثقافة الموت والبؤس خصوصا. المطلوب قبل كل شيء مقاومة التخلف وتفادي السقوط في الفخ الإسرائيلي، فخ جرّ لبنان الى مواجهة غير متكافئة تؤدي الى تدمير بنيته التحتية واعادته عشرات السنوات الى خلف كما حصل صيف العام 2006.
لم يكن انتصار صيدا انتصارا للصيداويين وحدهم. كان انتصارا لكل الجنوب وكل لبنان وللرغبة في حماية الوطن الصغير من المزايدات والمزايدين الذين لم يتمكنوا من حل اي من المشاكل التي تعاني منها المدينة التي كانت دائما في طليعة من صمد في وجه إسرائيل واطماعها.
انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان قبل عشر سنوات واكّدت الامم المتحدة، عبر مجلس الامن التابع لها وعبر كوفي انان، الامين العام للمنظمة الدولية انذاك، ان إسرائيل نفّذت القرار 425 بعد مرور اثنين وعشرين عاما على صدوره. انسحبت إسرائيل وبقيت قضية مزارع شبعا المحتلة في العام 1967 حين كانت تحت السيطرة السورية وينطبق عليها القرار 242. هل يستطيع لبنان الاستفادة من هذا الانسحاب، ام ان المكتوب على لبنان ان يظل عبر جنوبه مجرد quot;ساحةquot;؟ ذلك هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه. ما اثبتته الانتخابات نتائج البلدية في صيدا ان اللبنانيين يعون تماما ان الوقت ان لمواجهة الواقع بدل العيش في الاوهام وان المطلوب اليوم قبل غد الانصراف الى التنمية وتعويض اهل صيدا واهل الجنوب ما فاتهم في السنوات الاربعين الماضية.
لا بدّ من الاعتراف بأنّ جريمة ارتكبت في حق الجنوب واهله عندما قبل لبنان التنازل عن جزء من ارضه وسيادته في العام 1969. وقتذاك، اجبر لبنان على توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي حوّل الجنوب الى قاعدة انطلاق لعمليات ضد إسرائيل في حين اغلقت كل الجبهات العربية الاخرى بشكل محكم. استمر اغلاق الجبهات حتى حرب العام 1973. وكانت عودة اليه بعدها. كان مفترضا في نتائج تلك الحرب ان تؤدي الى تسوية. لكن ما حصل ان مصر اتخذت قرارا واضحا يقضي بالتوصل الى معاهدة سلام مع إسرائيل. ما لا يمكن تجاهله ان معاهدة السلام المصرية مع الدولة العبرية في اذار- مارس من العام 1979 كانت جزءا لا يتجزأ من اتفاقين تم التوصل اليهما في كامب ديفيد في العام 1978. كان الجزء الاول محصورا بمصر، فيما كان الجزء الاخر متعلقا بأعطاء حكم ذاتي للفلسطينيين. لم يستطع الفلسطينيون الاستفادة من اتفاقي كامب ديفيد بسبب الضغوط العربية التي مورست عليهم وعلى ياسر عرفات بالذات... اما لبنان، فتحول مرة اخرى الى quot;ساحةquot; والى الجبهة العربية الوحيدة المفتوحة مع إسرائيل تعويضا عن حال العجز العربية.
ما اراد اهل صيدا قوله، باسم كل اهل الجنوب، ان من حق لبنان الانصراف الى التنمية والاستفادة من القرار الرقم 1701 الصادر في العام 2006 الذي مكن الجيش اللبناني من الانتشار في جنوب لبنان للمرة الاولى منذ ما يزيد على ثلاثين عاما. قال اهل صيدا ما لا يستطيع اخرون قوله نظرا الى ان الاخرين لا يمتلكون الحرية التي لدى اهل صيدا، صيدا رفيق الحريري وسعد الدين رفيق الحريري والسيدة بهية الحريري والرئيس فؤاد السنيورة الذي قاد المقاومة الحقيقية في حرب صيف العام 2006. قالوا صراحة انه اذا كانت هناك من ضرورة لمواجهة مع إسرائيل، على اي مستوى كان، فأن قرار المواجهة يجب ان يكون عربيا. وفي حال كانت هناك حرب، فان هذه الحرب يجب ان تكون عربية - إسرائيلية وليست حربا محصورة بلبنان...
ابعد من الانتخابات البلدية التي شهدتها صيدا التي احتضنت كل المقاومات، هناك رسالة لبنانية الى كل من يعنيه الامر. فحوى الرسالة ان من حق لبنان ان يستريح. اذا كانت هناك حاجة الى حرب، لن يتردد لبنان في المشاركة فيها. لكن لبنان لا يستطيع ان يكون مع القرار 1701 وضده في الوقت ذاته. ولبنان لا يستطيع ان يكون مع مبادرة السلام العربية التي اقرتها قمة بيروت في العام 2002 وضد المبادرة في ان. ما الذي يريده العرب في نهاية الامر، هل يريدون خوض حرب مع إسرائيل وهل يستطيعون استعادة حقوقهم المشروعة عن طريق القوة؟ لماذا لا يقولون صراحة ما الذي يريدونه؟ ام ان على لبنان دفع ضريبة العجز عن الحرب وعن السلام؟ في حال كانت موازين القوى تسمح بذلك، فان قرار الحرب يجب ان يكون عربيا لا اكثر ولا اقل. وبموجب هذا القرار، يفترض ان يتحمل كل طرف مسؤولياته وفتح كل الجبهات، بدل ترك الوطن الصغير وحيدا وquot;ساحةquot; لنزاع لن يجرّ عليه سوى الويلات كما حصل صيف العام 2006.
لم تكن الانتخابات البلدية في صيدا مجرد انتخابات محلية. كانت دليلا على ان اللبنانيين في اكثريتهم الساحقة توصلوا الى مرحلة من النضج السياسي. باتوا يعرفون معنى التفريق بين المنطق والمزايدات. انه تفريق بين الحقيقة والوهم، بين ثقافة الحياة وثقافة الموت، بين السعي الى تنمية الجنوب بدل المتاجرة به وبأهله...