محمد حسين اليوسفي
لا أكون مبالغاً إن قلت إن اعتقال الصحافي والمحامي محمد الجاسم، قد وضع المدافعين عن الحرية والملتزمين بنهجها في حرج. فهم من حيث المبدأ ضد كل اعتقال ومحاكمة تكون تهمتها وموضوعها إبداءً لرأي، سواء كان ذلك الرأي صدر شفاهة أم كتابة، وسواء نشر على أرض الوطن أو خارج أسوارها.
فحرية الرأي مكفولة، كما يراها هذا الفريق وكما ينص عليها دستور الكويت الذي وضع في العام 1962. بيد أن هذا النفر من أحرص فئات المجتمع على تلك الحرية التي تتمتع بها الكويت، بحيث غدت صحفها ومجلاتها ودورياتها وفضائياتها، منفتحة يناقش فيها ما تجود به قرائح كتابها وقرائها ومتابعيها.
وهذا النفر الحريص على دوام هذه الحرية قد قَرَن القول بالعمل، فقد نزل إلى الشارع حينما كُممت الأفواه، ليعيد الأمور إلى نصابها، وهو بالتالي ذو مصداقية يشهد عليها تاريخه. وهؤلاء هم laquo;خلفraquo; لـ laquo;سلفraquo; من الرعيل الأول والآباء المؤسسين، الذين تحملوا الصعاب ليظفروا هم ومن يأتي بعدهم بهذه laquo;النعمةraquo;، حيث جيروا المعطيات الداخلية والأوضاع الإقليمية لتصب في تحقيق هذا الهدف النبيل، وهو بناء دولة المؤسسات والقانون.
ومن هذا المنطلق، فإن الملتزمين بالحرية في الكويت والمدافعين عنها laquo;والعاضين عليها بالنواجذraquo;، رأوا في كتابات محمد الجاسم laquo;تصعيداًraquo; غير مبرر لا يخدم مصلحة تطوير الديمقراطية وتقويتها في نفوس المواطنين، ويعطي مبررات قوية لأولئك الذين يريدون الانتقاص من شأنها.
وهي أيضاً لا تراعي ظروف الكويت والمنطقة في هذا المنعطف الحساس. فثمة شخصيات وطنية عريقة في المعارضة، لم تتهم بـ laquo;التهجمraquo; أو laquo;التطاولraquo;، وتحديداً على laquo;مسند الإمارةraquo;، ولم تقترب من laquo;المس بالذات الأميريةraquo; كما الحال في صحيفة اتهام الجاسم، رغم باعها الطويل في laquo;معارضةraquo; الحكومة وفي بيان أخطائها.
ولا شك أن هؤلاء لا ينزلقون ليتهموا محمد الجاسم، وهو قابع في سجنه، بأنه أراد من مقالاته، التي كان ينشرها على موقعه المسمى بـ laquo;الميزانraquo; أو من خلال كتبه، أن تكون غايتها هي laquo;التكسب السياسيraquo; وبناء مستقبل سياسي شخصي له برفع laquo;وتيرة انتقاداتهraquo;.
غير أن هؤلاء يشيرون إلى الجو العام في الكويت، الذي يشكل بيئة خصبة لمثل هذه الممارسة، بل يضيفون أن laquo;موضة المعارضةraquo; هي المتطلب الرئيسي للترشح إلى عضوية مجلس الأمة (وهو مطمح آمال كل الناشطين سياسياً)، أو للبقاء تحت قبته. ولهذا خرج النقد من مساره البناء، وخرجت مثل هذه المعارضة laquo;الطارئةraquo; من وظيفتها التقويمية.
يترافق مع ظاهرة laquo;زيادة حدة نبرة الانتقادraquo;، سواء في الصحف والمجلات والدوريات الكويتية أو في فضائياتها، ناهيك عن مجالسها الخاصة كـ laquo;الديوانياتraquo;، والمنتخبة كمجلس الأمة والبلدي، والجمعيات التعاونية والاتحادات النقابية والطلابية ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة، يترافق مع ذلك شيوع نزعة laquo;شعبويةraquo; تدغدغ عواطف الشارع الكويتي، وتعده بـ laquo;العطاءاتraquo; وlaquo;الهباتraquo;، وربما laquo;الغنائمraquo; من عوائد laquo;دولة ريعيةraquo; لا تمتلك غير النفط ثروة لها!
وهذه النزعة laquo;الشعبويةraquo; هي بلا شك laquo;بابraquo; التكسب السياسي وlaquo;مدخلهraquo; الأساسي! فقد أضحى نواب مجلس الأمة laquo;يتفننونraquo; في اقتراح زيادات الرواتب والبدلات والعلاوات، وفي مشاريع قوانين تثقل كاهل laquo;المال العامraquo; وكأنه laquo;معين لا ينضبraquo;! ولو كانت تلك الزيادات مقابل تحسين نوعية الأداء وزيادة الإنتاجية والكفاءة لهان الأمر، لكنها في حقيقة أمرها لا تعدو أن تكون laquo;لهثاً وراء الصوت الانتخابي واقتناصاً له بأي ثمنraquo;!
بل إن بعضها مضحك ولا يستقيم مع المنطق، كذاك الاقتراح النيابي الذي تقدمت به مجموعة من النواب الإسلاميين والقائل بتخصيص 500 دينار لكل امرأة كويتية غير عاملة أو ربة بيت! عدا أن laquo;المطلقةraquo; في واقع الحال تستلم 400 دينار من وزارة الشؤون كمساعدة!
ولو ظلت laquo;الشعبويةraquo; حبيسة الشأن العام الكويتي في حدود قضاياه الداخلية، لربما كان ذلك مقبولاً ولو على مضض، أما أن تخرج ليتخذ من مسائل العلاقات الخارجية laquo;مجال للمزايدةraquo; فهذا من أخطر الموضوعات. ولعل أكثر تلك الموضوعات إثارة وlaquo;حساسيةraquo; ونقول laquo;دغدغة للعواطفraquo;، هي العلاقة مع العراق بتداعياتها المختلفة المعروفة للجميع.
فالدخول على laquo;خط تداعياتraquo; الماضي المأساوية (التي يريد جميع المخلصين طي صفحتها والتطلع إلى الأمام) أمر خطير ضار بالمصلحة الوطنية، وحل ذيولها ومسائلها إنما هو من اختصاص السلطة التنفيذية ولجانها التي يجب أن تجتمع بعيداً عن laquo;الصخب الإعلاميraquo;.
سنبقى مدافعين عن حرية التعبير، رغم إقرارنا بأن ثمة خيطاً رفيعاً بين laquo;النقدraquo; وlaquo;القذفraquo;، مذكرين بأن ممارسة الحرية تستلزم المسؤولية أيضاً.
التعليقات