رغيد الصلح

مع صعود الحركات القومية في الغرب، ومع نمو المشاريع الامبريالية الغربية وازدياد الميل إلى التدخل في شؤون الامبراطورية العثمانية بين أصحاب هذه المشاريع في الدول الغربية وإلى محاولاتهم اقتسام الامبراطورية، برزت قضية الأقليات المجتمعية فيها . ومع صعود الحركة القومية العربية داخل الدولة العثمانية، وتخوف قادتها وناشطيها من نجاح هذه المحاولات، برز بين العروبيين، في نظرتهم إلى قضية الأقليات العثمانية، تياران دعا إلى تحصين الامبراطورية عن طريق الإقرار بالتعددية المجتمعية داخل الدولة العثمانية، وتبنى الدعوة إلى قيام امبراطورية متعددة القوميات، وقد أشرنا إلى هذا التيار في حلقات سابقة . الثاني تيار أو مدرسة اعتمدت مقاربة تقوم على المبادئ التالية:

* أولاً، عدم الإقرار بوجود فوارق مجتمعية ذات شأن بين العرب .

* ثانياً، اعتبار بعض الفوارق المهمة، إذا وجدت، شأناً موقتاً وعارضاً .

* ثالثاً، التركيز على الدور الأجنبي في النفخ بهذه الفوارق وفي شحذها بغرض استخدامها كأدة من أجل إجهاض المشروع الوحدوي العربي والهيمنة على المنطقة .

* رابعاً، التأكيد على دور الدولة في بناء الوطن Nation Building .

وبرزت هذه المدرسة بصورة خاصة بعد سقوط الامبراطورية العثمانية ونجاح مشروع إقامة ldquo;نظام أوروبيrdquo; في المنطقة العربية تكون من أشكال متنوعة من الحماية والاحتلال والانتداب التي اضطلعت بها أربع دول أوروبية هي فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، وإسبانيا . وتبنى هذه المقاربة نسيج واسع من المفكرين والقادة السياسيين والأحزاب العربية . ونما تأثير هذه المدرسة ابتداء من الثلاثينات مع نمو التيارات القومية الراديكالية في المنطقة .

وكان من بين الذين تبنوا هذه المقاربة الشيخ عبدالله العلايلي، الذي أثرت كتاباته في الأوساط السياسية في لبنان والمنطقة، وعلى العديد من الدراسات الأجنبية التي وضعت عن الفكرة العربية . وفي كتابه ldquo;دستور العرب القوميrdquo;، ركز الشيخ العلايلي بصورة خاصة على استكشاف الهوية الإثنية الشائعة في المنطقة فاعتبر أن العوامل التي أثرت في تكوينها هي اللغة والأدبيات العامة والعادات، وحيث إن العوامل المنتشرة في المنطقة هي عربية خالصة، لذلك جزم بأن الشخصية الإثنية الغالبة هي العربية . كذلك جزم بأن (السلالة) الموجودة في كل بقعة يسكنها العرب هي بقية من سلالات، وليست تامة، أما السلالة الكاملة فليست إلا العربية وحدها فقط، وأن هذه السلالة لها الرجحان والغلبة على أي من بقايا السلالات .

وفيما بدا انتقاداً لبعض السياسات الأجنبية في المنطقة، حذر العلايلي من اغفال واقع الرجحان والغلبة هذا، ومما دعاه انتخابا للسلالات المنقرضة ومحاولة لتثبيت موروثاتها وإشاعتها في البناء القومي للأقطار العربية معتبراً أنه محاولة لنفخ الروح، وإعادة الحياة إلى خصائص لم يثبت لها البقاء، وأن هذا النهج لا يعدو استبدالاً للانتخاب الطبيعي الدارويني بالانتخاب الصناعي الذي كان في رأيه، ldquo;رجعيةrdquo; موردة للخراب والدمار .

وذهبت عصبة العمل القومي في بيانها التأسيسي الذي أصدرته عام 1933 إلى أبعد مما ذهب إليه الشيخ العلايلي، في التقليل من أهمية الفوارق المجتمعية، فقد جاء في هذه الوثيقة المهمة من وثائق الفكر السياسي العربي، أنه ldquo; . . حيث إن ذريعة الأقليات كانت وما تزال سلاحاً ماضياً بيد المستعمرين يبررون بها تدخلهم في شؤون الأمم المستقلة فيتوصلون بذلك إلى استعمارها . وحيث إنه لا فرق في الحقوق والواجبات بين مواطن ومواطن أياً كان مذهبه أو منبته أو لغته، فإننا ننكر ولا نعترف بوجود الأقليات، المذهبية أو العنصرية، أو اللغوية وليس لسكان البلاد العربية غير جنسية واحدة هي الجنسية العربية ولغة رسمية واحدة هي اللغة العربية، وكل إخلال بهذه الوحدة جريمة وطنية تجب مقاومتهاrdquo; .

واستمر هذا الموقف يطبع نظرات الأحزاب والحركات العروبية في المرحلة اللاحقة، أي مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين . فخلال المرحلة السابقة، التي شهدت هيمنة القوى الامبريالية الأوروبية على المنطقة العربية، بدا التحدي الأكبر لمسألة الاندماج الوطني متمثلاً بالانقسامات ذات الطابع الديني والمذهبي، وبالتبني والتأييد الذي كانت تمنحه سلطات الانتداب والحماية والاستعمار لحركات وجماعات دينية معينة، سعياً وراء استخدامها ضد الحركات الاستقلالية العربية . وخلال تلك الفترة تمكنت الحركة العربية من بلورة أفكار وإجابات عديدة، وربما مقنعة عن التساؤلات التي طرحت حول موقفها تجاه موضوع الأقليات والتنوع الديني لسكان المنطقة . فجواباً على مطالبة بعض الأقليات الدينية بالاستقلال عن الحركة العربية وبإقامة كيانها المستقل، وخاصة في لبنان، قال الأمير فيصل الهاشمي الذي بويع ملكاً على المملكة العربية السورية، إن الانتماء العربي سبق قيام الأديان السماوية .

وبصرف النظر عن نجاعة هذه الآراء والاجتهادات، فإن المهم فيها هو أنها عبرت عن اهتمام العروبيين في المرحلة التي لحقت سقوط الامبراطورية العثمانية بمسألة الأقليات والتنوع الديني في المنطقة العربية . ولكن في غمرة تركيزها على النضال الاستقلالي، وفي لحظة انكبابها على خلق وحدة وطنية بين المسلمين والمسيحيين، وحتى في بعض الحالات، اليهود العرب، ضد المشاريع الامبريالية الأوروبية، أغفلت الحركة العربية خلال تلك المرحلة أهمية الاندماج على مستويين اثنين: الثقافي، والاجتماعي الاقتصادي .