جميل الصيفي


لست هنا للتحدث عن عملية القرصنة الإسرائيلية الأخيرة، فقد فات الوقت، والبركة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة العربية منها والأجنبية، لكن هذه العملية التي تضاف إلى سجل إسرائيل في مجال العربدة واستعراض العضلات يجب أن تلقى الكثير من التأمل والتمحيص سواء في دلالاتها أو في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين حولها من أجل استخلاص العِبر لمن يريد أن يعتبر، وأولها أن تلك العملية ربما لم يكن جنون القوة وحده هو الدافع وراءها حسب اعتقادي، ولكن ربما كان اليأس ورغبة إسرائيل في خلط الأوراق بعدما قيل عن الضغوط التي تمارس عليها من أجل حل سلمي عادل في المنطقة ناهيك عن الموقف الأميركي شاهد الزور لإحباط أي مشروع دولي لإدانة إسرائيل في مجلس الأمن خاصة في الفترة الحالية حيث حمى الانتخابات النصفية الأميركية في أوجها والكل يتسابق لإرضاء إسرائيل واليهود الأميركيين، وكان موقف نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أفضل مثال على ذلك رغم الصفعة التي وجهتها له إسرائيل خلال زيارته الأخيرة للمنطقة بإعلانها عن بناء 1600 وحدة استيطانية في القدس العربية في أول يوم وصل فيه إلى المنطقة، ناهيك عما عرف من سجل ذلك الشخص في تأييد إسرائيل بشكل أعمى، والأمر الآخر كان اطمئنان إسرائيل إلى عدم قيام الأنظمة العربية بالرد على تلك العملية الهمجية والاستفزازية وقد ثبتت صحة تنبؤاتها فلم تحرك تلك الأنظمة ساكنا اللهم باستثناء عبارات الشجب والاستنكار وهذا هو السقف الأعلى لما يقدرون أو قل ما يرغبون فيه على الأصح.
وهنا يتبادر إلى الذهن مقارنة الموقف العربي بالموقف التركي من تلك العملية علما بأن هيئات تركية هي من نظمت حملة أسطول الحرية وهنا ألتمس للأنظمة العربية العذر فليس لديها أموال ولا نفط ولا موارد بشرية ولا موانئ بحرية لتنطلق منها حملات إغاثة غزة ومحاولة رفع الحصار الإسرائيلي عنها ولكن الموقف التركي الصارم في مواجهة العربدة الإسرائيلية جاء رغم العلاقات الاقتصادية والعسكرية العميقة مع إسرائيل وبات يشتمّ منها رائحة الإمبراطورية العثمانية وكأنه من إرهاصات عودة تركيا للعب دور الإمبراطورية العثمانية والتي رفضت بإصرار محاولات اليهود السماح لهم بالتجمع في فلسطين أيام السلطان عبدالحميد والكل يعرف ماذا كان رده على تلك المحاولات.. يأتي ذلك في ظل الفراغ السياسي والعسكري في العالم العربي بعد اتفاقيات السلام مع إسرائيل وتدمير قوة العراق العسكرية والاقتصادية والعلمية واحتلاله على يد القوات الأميركية، ولكن يساورني الشك في قدرة الحكومة التركية على الذهاب بعيدا حتى آخر المشوار في المواجهة مع إسرائيل بسبب ضخامة العلاقات الإسرائيلية التركية الإسرائيلية التي أقيمت في غفلة العرب وانشغالهم بنزاعاتهم وتشرذمهم خلال نصف القرن الماضي، وعليه فإن المطلوب عربيا هو الشد على أيدي الأتراك ومحاولة إقامة نوع من الشراكة والتعاون ضمن نطاق هيئة مشتركة لوضع الخطط والتصورات لمستقبل جديد من العلاقة الإقليمية من أجل ضمان مصالح كلا الطرفين بدلا من الاعتماد على التحالف مع أميركا وأوروبا التي تسعى لامتصاص خيرات العرب وقهر شعوبها حتى من خلال دعمها للحكام المستبدين الذين يتصرفون وكأن البلاد العربية مزارع لهم وسكانها قطعان مواشٍ مستباح دمها ولحمها، ويجب الأخذ في الحسبان أن تركيا تلك القوة الإقليمية الصاعدة تسعى من خلال مواقفها الجديدة لضمان مصالحها حتى وإن أدى الأمر إلى مواجهة من نوع ما مع أميركا وأوروبا التي سدت الباب في وجه انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي ولم يخجل زعماء أوروبا من التصريح علنا بأنه لا مكان لسبعين مليون مسلم في أوروبا كما أعلن زعماء كل من فرنسا وألمانيا، فهل اتعظتم يا عرب من تلك التصريحات التي لم تتورع عن الإعلان بأن المسلمين -ناهيك عن
العرب- أناس غير مرحب بهم وإنما فقط يرحب بهم حين فتح أبواب بلادهم من أجل نهب خيراتها وثرواتها واستعباد شعوبها واحتلال أراضيها عند الضرورة كما حصل مع العراق.
الشيء الآخر الذي ربما مر مرور الكرام ولم يلق حقه من التمحيص والتدقيق كان في تصريح إيهود باراك حينما زار قوات المغاوير البحرية الإسرائيلية التي استولت على أسطول سفن الحرية في عرض البحر وخارج نطاق المياه الإقليمية، فما الذي قاله يومها لقد قال وبالحرف الواحد: laquo;لا مكان للضعيف في الشرق الأوسط ولن تعطى له فرصة ثانيةraquo;..
إلى هنا انتهى هذا التصريح المقتضب، فهل أدركتم يا سادتنا وزعماءنا مغزى هذا التصريح في الوقت الذي يتم فيه غزل عربي أميركي إسرائيلي على مائدة تناول وجبة من المخدرات وحبوب الهلوسة المسماة عملية السلام العربية الإسرائيلية، نعم قالها وبصريح العبارة إنها القوة وقانون القوة التي تعتمد إسرائيل عليها، أما قوة الحق والقانون فلا مكان لها في الأجندة الإسرائيلية خاصة أن إيهود باراك هو من أشرف على التخطيط والتنظيم والتنفيذ لعملية القرصنة مستندا إلى القوة الإسرائيلية العسكرية المهيمنة في الشرق الأوسط على الدول العربية مجتمعة بدعم من الولايات المتحدة، فهل أدركتم أيها الزعماء العرب أن محاوركم إيهود باراك والذي كان يغني بالعربية ألحان وأغاني فريد الأطرش في فترة الاستراحة خلال جولات المفاوضات بل قل الإملاءات الإسرائيلية على الأطراف العربية. فلماذا ترضون بالدنية وأنتم الأعلون إن كنتم ترغبون في ذلك، فوالله لم ولن تنقصكم الموارد البشرية ولا الأموال ولكن الإرادة السياسية والشعور بالعزة والكرامة والتي إن فقدها الإنسان أصبح ميت الأحياء وكما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ ndash; إنما المَيْتُ مَـيّتُ الأحياء
فهل تريدون واعظاً أكثر مما قاله إيهود باراك أمام جنوده المغتصبين لحقوق العرب والمسلمين والمستهترين بالقوانين والأعراف الدولية.
نقطة أخرى كشفت عنها القرصنة الأخيرة وهي أن عقلية العسكريين تبقى محصورة ضمن نطاق إنجاز المهمة، ولكن ماذا بعد؟ فالشعب الإسرائيلي المتعطش للعسكرية والمربى تربية إسبارطية يقدس الزعماء العسكريين ولذلك
فهو يمنحهم الثقة لتسلم قيادة البلاد، ولكن العيب
يكمن في أن العقلية العسكرية لا تنظر إلى ما وراء إنجاز أية مهمة كانت وتداعيات ذلك على المستوى الدولي
والإقليمي وهذا ما فعله باراك مؤخرا والذي ستكون له تداعيات بعيدة المدى على النظرة لإسرائيل في أوساط الرأي العام العالمي.