عبد الوهاب بدرخان


لم يكن سراً دفيناً، ولا لغزاً يحتاج إلى ذكاء خارق، فالمعايير المزدوجة هي القاعدة في quot;العدالةquot; الدولية وليست الاستثناء، خصوصاً متى تعلق الأمر بإسرائيل، وهي تسري حصريّاً على العرب، لكنها يمكن أن تطاول من يبدو أنه يميل إلى العرب. هذا ما تعرفت إليه تركيا في محنة quot;أسطول الحريةquot; بعد مقتل تسعة من مواطنيها. لكن القوى الغربية، وبسبب غباء حليفها الإسرائيلي المفضل، لا تعتزم خسارة تركيا الآن، لذا عمدت إلى التعامل بشيء من مظاهر الجدية مع المطالبة بتحقيق دولي quot;ذي مصداقيةquot;. فحتى واشنطن تظاهرت بأنها -كأنها- تضغط على حليفها في هذا الشأن. ولو كان الأمر يتعلق بالعرب أو الفلسطينيين وحدهم لما أزعجت واشنطن أو لندن وباريس نفسها حتى بإبداء ملاحظة عابرة لإسرائيل.

برزت الفكرة في بعض صحافة اليمين الأوروبية والأميركية، وعندما تبناها وزير الدفاع الأميركي جيتس تحولت إلى جدل لافت وذي مغزى. وعلى رغم أن جيتس يتمتع عادة بالحصافة، إلا أنه عزا ما سماه quot;التحول التركي المقلقquot; إلى رفض بعض دول أوروبا عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وتولى وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني الشرح لمن لم يفهم بقوله: إن quot;أخطاءquot; الأوروبيين دفعت تركيا شرقاً بدل جذبها إليهم، وبالتالي إلى إسرائيل. ولم يفطن الوزيران إلى أن هذا التقييم لحليف أطلسي قديم ينطوي على إهانة لتركيا وعلى اتهام لها بأنها باتت تنحرف عن الخط الغربي.

في أي حال، عبر كلام الوزير الأميركي عن وجود مشكلة حقيقية في التحول التركي. فهذه هي المرة الأولى التي تنفرد فيها دولة من المعسكر الغربي بمواقف تشذ عن ألف باء الانحياز الأعمى لإسرائيل. فليس الخطأ، في نظره، في أن يؤيد الأميركيون والأوروبيون حصار غزة، وإنما الخطأ في أن تطالب دولة أطلسية برفع هذا الحصار. كما أن الخطأ، عند جيتس، ليس في دعم إسرائيل لتكون خارج القانون الدولي أو فوقه، وإنما الخطأ في سعي أردوغان إلى اخضاعها كما تخضع دولته للقانون الدولي. وأخيراً فإن الخطأ من وجهة النظر الأميركية ليس في مساعدة إسرائيل على تخريب مساعي السلام إذا لم تناسبها، بل الخطأ التركي يكمن في كشف التهرب الإسرائيلي من السلام من دون أي محاسبة من جانب الغرب الذي يدّعي يوميّاً أن هذا السلام هو خياره الاستراتيجي للمنطقة.

سيمضي الجدل ليطرح أسئلة كثيرة. فهل إن quot;التحالفquot; السابق مع إسرائيل هو ما عزز مكانة تركيا أميركيّاً وأوروبيّاً. وهل إن أهمية تركيا هي حصيلة الأدوار التي لعبتها لمصلحة الغرب طوال ما يقارب السبعين عاماً، أم أنها نتيجة لكونها بلداً مسلماً أقام علاقات تعاون عسكري وسياسي مع إسرائيل. وهل إذا مضت تركيا في خطها الجديد، النابع من ديمقراطيتها والرأي العام فيها، يمكن أن ترتب عليها خسارة دعم أميركي وأوروبي، كأن تصوَّر على أنها بلد يشهد صعوداً للتيار الإسلامي ويمكن أن يشكل خطراً على أمن أوروبا مثلما بدأ يشكل خطراً على quot;أمن إسرائيلquot;... الأرجح أن الملف سيفتح على مصراعيه، خصوصاً إذا خطت أنقرة نحو قطع العلاقات، وستحرص إسرائيل بل ستحرض على نزع quot;الشرعيةquot; الغربية عن تركيا.

غزة ليست سوى الجزء العائم من المشكلة. جوهر الخلاف له اسم آخر: إيران. فالتصويت ضد العقوبات استُشعر في واشنطن كتحدٍّ، ولعله أعطى مؤشراً بأن تركيا لن تكون حليفاً يعتمد عليه طالما أنها مصرّة على مواصلة الحوار مع الجارة على حدودها الجنوبية- الشرقية. وما دامت الحرب تصوّر على أنها مغامرة إسرائيلية أولاً فلاشك أن تركيا لن تكون شريكة فيها، وقد سبق لها أن حصرت تعاونها في غزو العراق في أضيق نطاق. هذه قضية أخرى ستتلمس فيها تركيا حقيقة quot;سر دفينquot; آخر اسمه: إما معنا وإما ضدنا.