مراد زروق


استفاق العالم يوم الخميس الماضي على خبر التقدم الرهيب الذي حققه حزب الحرية الهولندي الذي أصبح ثالث قوة سياسية في هولندا بعد حصوله على 24 مقعداً في البرلمان، وراء كل من الحزب الليبرالي الذي حصل على 31 مقعدا والحزب العمالي بـ30 مقعدا. نزل الخبر كالصاعقة على مسلمي هولندا وعلى العقول المتنورة في أوروبا؛ لأن حزب الحرية الذي يتزعمه اليميني المتطرف خيرت فيلدرز ليس له برنامج سياسي كباقي الأحزاب. برنامج هذا الحزب هو كراهية المسلمين ورفض وجودهم في هولندا. بعبارة أخرى وضع المسلمين اليوم في هولندا لا يختلف كثيرا عن وضع اليهود في وسط أوروبا نهاية الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات من القرن الماضي.
أكيد أن فيلدرز ليس في سدة الحكم وحزبه يحتل المرتبة الثالثة في هولندا، لكنه على مرمى حجر من السلطة التي قد يكون على موعد معها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار سياق الأزمة الاقتصادية والمالية التي طالت عددا من الدول الأوروبية. الأزمة الاقتصادية هي خير حليف لليمين المتطرف والسياسيين الشعبويين في أوروبا؛ حيث لا يترددون في ربط كل مشاكل دول الاتحاد الأوروبي بالمهاجرين ويصورون للناس بطريقة تبسيطية أن طرد المهاجرين سيمكّن السكان الأصليين من الحصول على العمل بسرعة، كما أن الإجرام سيقل بتراجع عدد المهاجرين وستتحسن الخدمات الاجتماعية، وما إلى ذلك من الترّهات التي مللنا سماعها.
لكن فيلدرز يختلف عن باقي المتطرفين في أوروبا، فالرجل متخصص في الإسلام، وهو الذي أنتج فيلم laquo;فتنةraquo; المعادي للإسلام؛ حيث وصف القرآن بأنه كتاب يحرِّض على العنف، ومن مواقفه التي جاهر بها مرارا حظر تداول القرآن في هولندا وشبهه بكتاب laquo;كفاحيraquo;، السيرة الذاتية للزعيم النازي أدولف هتلر. من يتأمل تعفن الساحة السياسية الهولندية في يومنا هذا سيفهم أن الكارثة لم تحل بمسلمي هولندا فحسب، بل البلد بأكمله يعيش حالة انهيار أخلاقي لا مثيل له في التاريخ. نحن نتكلم عن منطقة الأراضي المنخفضة التي لعبت دورا رائدا في التنوير الفكري للأوروبيين في السياق الإصلاحي إبَّان النهضة الأوروبية، ونتكلم عن بلد كان حتى وقت قريب نموذجا للتعايش والتنوع الثقافي ونتكلم عن ناخبين لم يكونوا في الأصل يمينيين متطرفين، لكن سياق الأزمة والدور السلبي لوسائل الإعلام وسطحية الخطاب المتطرف التي تكون لها جاذبية خاصة في أوقات الأزمات جعلتهم يغيرون اختياراتهم السياسية ويرمون بأنفسهم في أحضان المتعصبين. ما يقع في أوروبا يبعث على القلق فعلا؛ لأن هذا الإصرار على التعامل مع المسلمين في أوروبا كما لو أن تواجدهم في القارة العجوز هو مشكلة في حد ذاتها سيُفضي على المدى المتوسط إلى عواقب وخيمة قد تكون أول مؤشراتها الانطواء والانعزال وربما تنتهي بأحداث عنف كالتي عرفتها ضواحي باريس.
الآن أصبحنا نرى كيف تتسابق المحافظات والمدن على منع النقاب ليس في فرنسا فقط، بل في دول أوروبية أخرى، وربما لا يتجاوز عدد المنقبات في هذه المدن أصابع اليد الواحدة. لقد حقق ساركوزي نجاحا لم يكن هو نفسه يتوقعه؛ حيث خلق نقاشا من فراغ وحول الفراغ وجعل الناس يخصصون له المناظرات ويفردون له المقالات، وما دامت الشعبوية تعيش أحلى أيامها فقد انتقلت العدوى إلى دول أخرى، وكلما كان رجل السياسة فاشلا في التعاطي مع المشاكل الحقيقية للمواطنين، كان بارعا في اختراع مشاكل لا وجود لها في الحياة اليومية للناس. وفي خضم هذه التنافس بين السياسيين الشعبويين حول من يتفوق في المنع والحظر والتضييق، بشّر فيلدرز أتباعه بفرض غرامات على النساء المحجبات وربما سار سياسيون آخرون على نهجه في المستقبل.
الأوروبيون اليوم في أمسّ الحاجة إلى سياسيين أكْـفاء، لكنه ليس بالأمر الهين؛ لأن هذه الطينة من رجال السياسة تتناقص بشكل مخيف، كما أن تقييم أداء وكفاءة المسؤولين ليس أمرا في متناول كل الناخبين، والظرف الدقيق الذي تمر منه دول الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى قرارات شجاعة وتاريخية تحد من تبعات الأزمة وتغير مجرى التاريخ، وهذا النوع من القرارات والمبادرات لا يتخذه أصحاب المزايدات والفاشيون الجدد من أمثال خيرت فيلدرز، بل تقف وراءه العقول النيرة وأصحاب الكفاءة ممن نحن في حاجة إليهم أكثر من أي وقت مضى. هذه الأزمة الاقتصادية ستغير لا محالة البنية الاقتصادية الأوروبية ونظام العمل وستأتي على مكتسبات اجتماعية كنا نعتقد أنها تدخل في باب الثوابت، لكن الأخطر هو أن تحمل هذه الأزمة في طياتها أزمة أخرى ذات طبيعة سياسية وأخلاقية، ربما قد تنهار معها المبادئ التي قامت عليها أوروبا في العصر الحديث، حينها ستكون فصول الكارثة قد اكتملت. العالم في حاجة إلى أوروبا قوية؛ لأنها عنصر توازن نسبي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وأوروبا قوية بمبادئها وبعدالتها السياسية والاجتماعية قبل أن تكون قوية باقتصادها، ولمبادئ أوروبا وقيمها أعداء كُثُر، ربما يكون أخطرهم وأبشعهم في الوقت الراهن فيلدرز وأمثاله.