عبد الباري عطوان

يبدو ان نبوءة الدكتور مصطفى الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب المصري التي قال فيها ان موافقة امريكا، وعدم اعتراض اسرائيل، على هوية الرئيس المقبل لمصر بدأت تتآكل بشكل أسرع مما توقع، لأن الثمن الذي تريده اسرائيل مقابل تأييدها للتوريث في مصر باهظ جداً ولم تعد القيادة المصرية تتحمله، أو مستعدة لدفعه.
فهناك مؤشرات كثيرة تفيد بأن العبء الاسرائيلي على كاهل الحكومة المصرية بات ثقيلاً، والجشع الاسرائيلي الذي يتطور تدريجياً إلى ابتزاز غير مسبوق، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على العلاقات بين البلدين، أو بالأحرى الحكومتين، وبدأنا نلمس ملامح توتر في الجانب المصري على الأقل.
اسرائيل، ومنذ ارتكاب قواتها لمجزرة سفن الحرية تعيش عزلة دولية، وأصبحت مكروهة في معظم أنحاء العالم، وسياسيوها باتوا مطاردين كمجرمي حرب، سواء الذين كانوا في حكومة 'كاديما' وأشرفوا أو تورطوا في العدوان على قطاع غزة، أو الحاليون الذين ينخرطون في حكومة بنيامين نتنياهو.
في ظل هذا الوضع المزري تتبلور لعنة اسمها قطاع غزة تطارد اوساط النخبة الاسرائيلية الحاكمة، التي لا تعرف كيف تواجهها، في ظل المطالبات العالمية المتواصلة بضرورة انهاء الحصار في أسرع وقت ممكن.
العالم يعيش حالياً حالة من الصدمة بعد ان تكشف للرأي العام العالمي مدى قساوة قلوب الاسرائيليين وممارستهم أعمالا نازية لا يصدقها عقل أو منطق في القرن الواحد والعشرين، مثل منع أربعة آلاف سلعة من دخول القطاع مثل الكزبرة والمايونيز ولعب الأطفال والأدوات المنزلية والأحذية.
المعضلة الاسرائيلية الحالية تتمثل في كيفية 'تخفيف' الحصار، ومنع وصول أسلحة، أو أي مواد يمكن ان تساهم في صنعها، وتعطيل أي قرار دولي بتشكيل لجنة تحقيق دولية في مجزرة السفينة 'مرمرة' التي راح ضحيتها أكثر من تسعة شهداء أتراك.
تخفيف الحصار وليس رفعه مسألة غير ممكنة، لأن السؤال المطروح حالياً وبقوة هو كيف سمح العالم لاسرائيل في الأساس بفرض مثل هذا الحصار الوحشي، أما منع وصول أسلحة فمسألة شبه مستحيلة لأن هناك وسائل عديدة للتهريب، بعضها يأتي عبر اسرائيل نفسها ناهيك عن الأنفاق، أما تعطيل التحقيق الدولي في المجزرة من خلال محاولة تسويق اللجنة الاسرائيلية البديلة فتواجه استنكاراً دولياً وخاصة من الأمين العام للأمم المتحدة رغم مباركة أمريكا ودعمها للجنة الاسرائيلية المهزلة.
بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي راهن دائما على طوق النجاة الذي تقذفه له الحكومة المصرية في كل مرة يتورط في مأزق أو عدوان يحاول حالياً الهروب كلياً من مصيدة القطاع بالقائه في وجه هذه الحكومة، طالباً منها تقبل هذه الهدية المسمومة بصدر رحب مثلما فعلت دائما بجميع الهدايا السابقة المماثلة.
' ' '
الوزير الاسرائيلي اسرائيل كاتس وعضو آخر في مجلس الوزراء الاسرائيلي المصغر، طالبا بفك الارتباط كلياً مع قطاع غزة، واغلاق جميع المعابر الاسرائيلية اليه، ونشر قوات 'يونيفيل' دولية على طول حدوده مع مصر واسرائيل، أي عودة أوضاع القطاع إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال الاسرائيلي في حرب حزيران (يونيو) عام 1967.
الحكومة المصرية رفضت بغضب هذه الهدية الاسرائيلية، وطالبت نظيرتها الاسرائيلية بتحمل مسؤوليتها تجاه القطاع باعتباره ارضا محتلة مثله تماماً مثل الضفة الغربية. مثلما رفضت أيضاً عودة القوات الدولية الى القطاع.
الغضب المصري مشروع، لان عودة ادارة الحاكم العسكري لقطاع غزة مثلما كان عليه الحال قبل الاحتلال الاسرائيلي يعني اعفاء اسرائيل من كل مسؤولياتها، والقاء قنبلة موقوتة شديدة الانفجار على مصر. فاسرائيل ومن خلال مخطط السلام الاقتصادي الذي تطبقه حكومة السلطة ضمنت السيطرة على الضفة الغربية، وقضت كلياً على اعمال المقاومة للاحتلال، من خلال التنسيق الأمني، وإشغال الناس برشوة الرواتب، وبعض الامتيازات الاخرى الصغيرة، خاصة لرجالات السلطة الكبار مثل السيارات الفارهة، وبطاقات (V.I.P) وغيرها. واذا نجحت في التخلص من القطاع من خلال فك الارتباط به، وتحويل اعبائه الى النظام المصري، فانها تضمن بذلك استقراراً غير مسبوق.
خطأ النظام المصري الأكبر هو قبوله بثلاثة امور اساسية:
الأول: ان يعمل حارساً او شرطياً لحماية اسرائيل وحدودها سواء في سيناء او على الحدود مع قطاع غزة بما في ذلك منع وصول الاسلحة ومطاردة وتعذيب المقاومين لنزع المعلومات عن انشطتهم وتقديمها لاسرائيل في اطار ما يسمى بالتنسيق الامني.
الثاني: تبني اتفاقات اوسلو، ودعم السلطة التي انبثقت عنها، وعدم اصراره على تحديد سقف زمني للمفاوضات لاقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في نهايتها، ورضوخه بالكامل، اي النظام المصري للاملاءات الاسرائيلية.
ثالثا: تنفيذ خطة اسرائيلية بتشديد الحصار على قطاع غزة طوال السنوات الثلاث الماضية لتجويع مليونين من ابنائه بهدف الاطاحة بحكومة حماس او اجبارها على العودة الى بيت طاعة السلطة، والقبول بالشروط الاسرائيلية مسبقاً مثل نبذ العنف (الارهاب) والاعتراف بالدولة الاسرائيلية والقبول باتفاقات اوسلو.
جميع هذه الخدمات الجليلة التي قدمتها الحكومة المصرية للاسرائيليين اضرت بمصر ودون ان تحقق الاهداف الاسرائيلية المنشودة. فحركة حماس لم ترضخ للضغوط الابتزازية، والحصار لم ينجح في اطاحتها واسقاط حكومتها وتثوير الشعب ضدها، ولم يؤد للافراج عن الجندي الاسير غلغاد شاليط، والحصار فتح اعين العالم باسره على نازية اسرائيل بفضل 'ذكاء' حركة 'حماس' ونجاحها في ابتكار وسائل جديدة لكسر الحصار مثل سفن الحرية، وفوق كل هذا وذاك صمودها في القطاع (مع بعض الاخطاء) وانضمامها الى محور ممانعة قوي ومؤثر، وهو المثلث التركي الايراني السوري.
' ' '
الأخطر من هذا وذاك، انه في الوقت الذي كانت تقوم فيه الحكومة المصرية بتقديم هذه الخدمات لاسرائيل بحماس كبير، كانت الاخيرة تتآمر عليها في فنائها الخارجي وتؤلب دول منابع النيل ضدها، وتزودها بالاموال لبناء سدود لتحويل المياه وتقليص حصتي مصر والسودان، وبالاسلحة للتصدي لأي تدخل عسكري مصري لوقف هذا التوجه الافريقي الخطير.
المنطق يقول، ان مصر، وبعد كل هذه الاخفاقات، والتنكر الاسرائيلي لخدماتها هذه، ومحاولة القاء قطاع غزة في وجهها بطريقة استفزازية، مطالبة بمراجعة كاملة وجذرية لجميع سياساتها تجاه اسرائيل، واستخدام ما في يدها من اوراق ضغط لحماية نفسها وأمنها القومي أولاً، واستعادة مكانتها ودورها المفقود في المنطقة.
فكيف يتحدث الرئيس مبارك في خطابه بالأمس عن اولويات مصر الثلاث وهي القضية الفلسطينية وأمن الخليج ومواجهة الاخطار المتعلقة بمياه النيل في افريقيا، وبلاده فاقدة دورها، وتتلقى الصفعات الواحدة تلو الأخرى من حليفها الاستراتيجي الاسرائيلي.
الرئيس مبارك جرب تمرير التوريث عبر البوابة الاسرائيلية الامريكية ومن الواضح ان هذه البوابة اضيق كثيراً مما اعتقد، وآن الاوان للعودة الى ثوابت مصر الاساسية التي جعلتها القوة الاقليمية الاعظم في المنطقة، وأبرزها جعل اسرائيل عدوها الاستراتيجي، وليس حليفها الاوثق مثلما هو حاصل حالياً. وربما لو اختار الخيار الثاني لكانت عملية التوريث اكثر سهولة، ولكن ربما يكون من المتأخر الآن الحديث عن هذه المسألة.