محمد السماك


في الوقت الذي تجري فيه الاستعدادات على قدم وساق لعقد مؤتمر السينودس في الفاتيكان حول مستقبل مسيحيي الدول العربية، يمرّ مجلس كنائس الشرق الأوسط في أسوأ مرحلة منذ قيامه في عام 1974. فالبابا بنديكتوس السادس عشر، وفي ضوء التقارير التي أعدتها السفارات البابوية في المنطقة، والتقارير التي بعثت بها إليه المراجع الكنسية الكاثوليكية العربية، وجد أن المسيحيين يمرون في ظروف صعبة ومعقدة تتطلب دراسة عميقة، وتحتاج إلى معالجات مع الكنائس ومع المراجع الحكومية والمجتمعات المحلية سواء بسواء.

ولذلك دعا البابا إلى مؤتمر استثنائي سيعقد برئاسته في حاضرة الفاتيكان في العاشر من شهر أكتوبر القادم؛ وكان طبيعيّاً أن يشارك مجلس كنائس الشرق الأوسط في الإعداد لهذا المؤتمر باعتبار أن المجلس يضم كل كنائس المنطقة من الكاثوليكية والمارونية والأرثوذكسية والسريانية والقبطية والأرمنية، وعددها 27 كنيسة مختلفة. ونظراً لصفته التمثيلية للمسيحيين في المنطقة فإن دوره يعتبر أساسيّاً ومحوريّاً. غير أن المجلس يواجه انقسامات داخلية أدّت إلى تعطيل هذا الدور.
ولا تتعلق هذه الانقسامات بقضايا لاهوتية دينية ولا بقضايا سياسية عامة، ولكنها تتعلق بخلافات ثنائية بين بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في القدس ثيوفوليس الثالث، والبابا شنودة الثالث بابا الأقباط في مصر. فالبطريرك ثيوفوليس هو البطريرك غير العربي الوحيد الذي يمثل طائفة مسيحية كبيرة. والمشكلة ليست في يونانيته، أو في لا عروبته، ولكن المشكلة تكمن في أنه مثل سلفه، باع السلطات الإسرائيلية وأجّر لمؤسسات ومنظمات يهودية عقارات وقفية تملكها الكنيسة، الأمر الذي فجر ثورة غضب واستنكار في أوساط المسيحيين العرب الأرثوذكس داخل الأرض المحتلة وخارجها.

أما البابا شنودة فقد التزم منذ احتلال إسرائيل لمدينة القدس في مثل هذا الشهر يونيو -حزيران من عام 1967 بموقف ديني -أخلاقي- وطني منع بموجبه رعايا الكنيسة القبطية من الحج إلى القدس إلا بعد تحريرها من الاحتلال. ويستند البابا شنودة في موقفه من الخلاف مع البطريرك ثيوفوليس، فوق ذلك، إلى أن المسيحيين الأقباط يشكلون تقريباً نصف مسيحيي الشرق الأوسط.

وقد انفجر الخلاف بين الكنيستين القبطية والأرثوذكسية- اليونانية خلال مؤتمر عقده مجلس كنائس الشرق الأوسط في عمان في 19 أبريل الماضي. فخلال المؤتمر تعرّض البطريرك ثيوفوليس إلى الكنيسة القبطية بكلام اعتبره ممثلها أمين عام المجلس الدكتور جرجس صالح مسيئاً وظالماً. وطلبت الكنيسة من البطريرك أن يعتذر، ولكنه رفض بحجة أنه لم يقل ما يسيء إلى الكنيسة أو إلى البابا شنودة، وأنه بالتالي ليس مستعداً للتراجع عن كلام لم يقله أساساً.. إلا أن الكنيسة القبطية أصرّت على موقفها. وأصرّ البطريرك على رفضه، فكان قرار البابا شنودة بانسحاب الكنيسة القبطية من المجلس. وهي سابقة لم تحدث من قبل. وكان الأنبا صموئيل ممثل الكنيسة القبطية أحد مؤسسي المجلس، إلا أنه قُتل أثناء حادث المنصة في القاهرة في عام 1982 الذي استهدف السادات. ومما زاد الطين بلة، أنه عندما علم البطريرك ثيوفوليس بالأمر علّق عليه قائلاً: quot;لم يضغط أحد على البابا شنودة للانسحاب من المجلس.. ولن يضغط عليه أحد للعودة إليه. لقد تحول مجلس الكنائس إلى نادٍ للمنتفعين، وحان الوقت لتخليصه من هذه الحالة.. وإعادته إلى دوره الأساسquot;!

وبذلك يكون البطريرك اليوناني قد عمم اتهامه بحيث شمل الكنائس الأخرى ولو لم يسمِّ أيّاً منها. وأمام هذا الوضع، تضامنت مع الكنيسة القبطية كنيستان من كبريات الكنائس المنضوية في المجلس وهما الكنيسة السريانية التي يترأسها البطريرك عيواص (ومقره في دمشق)، والكنيسة الأرثوذكسية الأرمنية التي يترأسها الكاثوليكوس آرام (ومقره في بيروت -أنطلياس). وبتضامن هذه الكنائس الثلاث مع الأمين العام للمجلس الذي تنتهي ولايته قانوناً في عام 2011، أصبح المجلس في حالة شلل تام.

وهكذا عندما توجه البابا بنديكتوس السادس عشر إلى قبرص -وهي أول دولة أرثوذكسية يزورها البابا- لم يكن بين مستقبليه هناك الأمين العام للمجلس. ولم يتسلم منه نصّ الوثيقة التمهيدية لمؤتمر السينودس حول مسيحيي الشرق الأوسط التي سلمها البابا إلى رؤساء الكنائس الكاثوليكية في المنطقة لدراستها، وإعداد مقترح حول ما ورد فيها، تمهيداً لمناقشتها في روما في الخريف القادم.

وفي الأساس يشكو مسيحيو الشرق الأوسط ويعانون من عدد من القضايا أهمها: الانعكاسات السلبية الاجتماعية والاقتصادية لاستمرار الصراع العربي- الإسرائيلي. والانعكاسات السلبية لظاهرة تصاعد التطرف والغلو الديني الذي يستهدف المسيحيين وحريتهم الدينية. والاعتداء على مسيحيي العراق على خلفية دينية على رغم أنهم ليسوا جزءاً من لعبة الصراع على السلطة سواء بين السنة والشيعة، أو بين العرب والأكراد والتركمان. وكذلك توالي المشاكل المحلية ذات البعد الطائفي في مصر بين مسلمين وأقباط، خاصة في قرى الصعيد (نجع حمادي مثلاً). وأخيراً وليس آخراً، الانعكاسات السلبية لحركة quot;المسيحانية الصهيونيةquot; في الولايات المتحدة المؤيدة لإسرائيل، على صورة المسيحية عند مسلمي الشرق.

وقد أدت هذه القضايا إلى أسوأ ظاهرة يواجهها مسيحيو الشرق الأوسط، وهي الهجرة الواسعة من بلدانهم إلى الولايات المتحدة وكندا، وإلى أستراليا، وأميركا الجنوبية. وتتمثل هذه الظاهرة في التراجع الحاد في عدد مسيحيي دول المنطقة، الأمر الذي بات يشكل خطراً على النسيج الوطني الذي عرف بها، وعرفت به، منذ بداية العلاقات الإسلامية- المسيحية قبل أكثر من ألف عام.

ومن أجل ذلك يتطلع المسيحيون العرب باهتمام كبير إلى السينودس المقبل. إلا أن هذا الاهتمام يصطدم بحالة التردي التي يمرّ بها مجلس كنائس الشرق الأوسط. ذلك أنه لو لم يكن هناك مجلس يجمع بين هذه الكنائس لكان من الضروري إيجاده ليعبر عن الصوت الواحد في معالجة هذه المشاكل.

فالمجلس أسس منذ قيامه لعلاقات إسلامية- مسيحية من خلال فك الارتباط أولاً بين المسيحية والغرب.. وثانيّاً بين المسيحية والحركة المسيحانية الصهيونية الأميركية. فالمسيحيون العرب الذين كانوا ضحايا حروب الفرنجة -الحروب الصليبية- كانوا أيضاً رواد النهضة العربية الحديثة، والذين حافظوا على اللغة العربية. كما كانوا في مقدمة المناضلين ضد الاستعمار وبناء الدولة الوطنية الحديثة. وقد عانوا كالمسلمين من جراء الاحتلال الإسرائيلي وقاوموا مع الفلسطينيين المسلمين أيضاً الاعتداءات الإسرائيلية منذ قيام إسرائيل في عام 1948 حتى اليوم.

وكذلك فان المسيحيين العرب، ومن خلال مجلس كنائس الشرق الأوسط رفعوا الصوت عاليّاً ضد الحركة الصهيونية المسيحانية ونددوا بها واعتبروها مناهضة ليس فقط للحق العربي في فلسطين، وإنما للعقيدة المسيحية في الدرجة الأولى.

ولعل آخر هذه المواقف المبدئية القائمة على اللاهوت المسيحي هو الموقف الذي أعلنه مسيحيون فلسطينيون من مختلف الكنائس في القدس حيث طالبوا كنائس العالم -بما فيها الفاتيكان- باعتبار الاحتلال الإسرائيلي إثماً وخطيئة بحق الدين والإنسانية، لا يجوز تغطيته أو تبريره لاهوتيّاً بأي شكل من الأشكال.

ومن هنا فإن المشكلة التي يواجهها مجلس كنائس الشرق الأوسط والتي تعرقل عمله وتعطل جهوده الحوارية والتوفيقية ليست مشكلة مسيحية داخلية فقط، ولكنها مشكلة تقع في صميم العلاقات الإسلامية- المسيحية، وتنعكس سلباً على هذه العلاقات.

ومن هنا أيضاً، فإن مؤتمر السينودس المقبل ليس شأناً مسيحيّاً فقط، ولكنه شأن قومي أيضاً يهمّ المسلمين العرب بقدر ما يهمّ المسيحيين العرب. وكم سيكون جميلاً ومفيداً، لو أن الفاتيكان دعا إلى السينودس ممثلاً -ولو بصفة مراقب- عن كل من جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. فالسينودس ليس مؤتمراً دينيّاً -لاهوتياً، وإن كان يعقد بمبادرة من البابا وفي حاضرته، ولكنه مؤتمر يتعلق بمستقبل المسيحيين العرب والشرقيين الذين يشكلون ركناً أساسيّاً من أركان الهوية العربية والشخصية المشرقية.