عبدالله السويجي

الحديث عن التعاون العربي بمفهومه التكاملي والاندماجي يقود إلى بديهيات وتناقضات وإشكاليات لا بد من ذكرها، بعيداً عن العاطفة ومنطق التاريخ الذي تزخر به أدبيات المقالات والخطب السياسية، ويجب ألا يفهم من حديثنا جر الآخرين إلى موجة جديدة من الإحباط أو الحزن، وإنما لتوصيف الواقع، والنظر إلى الداخل نظرة مراجعة . وعلى الرغم من هذه التناقضات إلا أن الأقطار العربية مجبرة على التعاون في ما بينها بشأن قضايا كبيرة كالقضية الفلسطينية، وكل قضية داخلية تعرّض أي شعب للتفكك والانقسام .

إن كل دستور من دساتير الأقطار العربية يشير إلى انتساب الدولة للوطن العربي، استناداً إلى اللغة والتاريخ والمصير المشترك، ومعظم الدول تذكر دساتيرها مرجعية ما، وبمستويات عديدة، أن قوانينها مستمدة من التعاليم الإسلامية، وكل دولة عربية هي عضو في جامعة الدول العربية، وفي المعاهدات الدفاعية والاقتصادية والثقافية الصادرة عن الجامعة . واستناداً إلى ذلك، فإن كل الدول العربية، من المحيط إلى الخليج معنية بالقضية الفلسطينية، ووحدة أراضي كل دولة، وطرح فكرة ldquo;الشأن الداخليrdquo; بالنسبة للقضايا المصيرية أمر مرفوض طبقاً لما ذكرنا، فالقضية الفلسطينية ليست شأناً داخلياً فلسطينياً، وصراعها مع العدو الصهيوني ليس مسألة داخلية تخص الفلسطينيين وحدهم، ويمكن قياس أكثر من مسألة على هذا النحو، مثل الأوضاع في لبنان والعراق والسودان والصومال وقضية الجزر الإماراتية وغيرها، وهي القضايا التي فشلت جامعة الدول العربية حتى الآن في خدمتها ضمن أي مستوى من المستويات .

وعلى الرغم من الأمور التي ذكرنا، والتي تبدو منطقية، ويجب أن تقود إلى تعاون تكاملي اندماجي، أو تنسيقي على مستويات عالية، إلا أن صعوبات كبيرة تواجه هذا التعاون، والعيب ليس في القوانين والمصير والتاريخ، إنما في العقلية العربية وطبيعة الأنظمة التي تشترك بسمات كثيرة، وتلعب هذه السمات دوراً في (التباعد) العربي، وتحول دون تحقيق عمل مشترك على مستوى التنسيق، فكيف على مستوى التكامل والاندماج .

إن طبيعة الأنظمة العربية متشابهة من حيث إنها أنظمة لم تعرف الديمقراطية الحقيقية بعد، وإذا عرفت تبادل السلطة فإنها تغرق في ldquo;حكومات الوحدة الوطنيةrdquo;، التي تحرص على التمثيل الطائفي والمذهبي والأقليات، ومجرد هذا الحرص يلغي العملية الديمقراطية الحقيقية، واختيار ممثل الشعب على أساس الكفاءة والبرنامج الانتخابي وخدمة الوطن، وغياب الديمقراطية . وانتقال السلطة السلس عن طريق الانتخابات، أو تحديد الولاية الرئاسية، حوّل الأنظمة إلى ملكيات، فهناك رؤساء مرّ على وجودهم نحو نصف قرن في سدة الحكم، ويحاولون نقل السلطة إلى أبنائهم أو أقربائهم، وهذا في حد ذاته يقف جداراً فاصلاً بين التعاون والتكامل والاندماج بين الأقطار العربية لسبب بسيط هو: صراع المصالح، إذ غالباً ما يكون الرئيس مسيطراً على الاقتصاد والأموال والأراضي ويتحكم في حركة التجارة الداخلية، ولا فرق بين أمواله والمال العام، خلاف ما يحدث في الديمقراطيات الغربية الحقيقية، وإن استندت الأخيرة إلى أحزاب .

الأمر الثاني يتمثل في طبيعة المجتمع العربي، الذي يقدس القبلية والعشيرة والعائلة، ويرفض الفرد الذوبان في مجتمع يحكمه القانون ومنطق ldquo;الشخص المناسب في المكان المناسبrdquo;، ولهذا، يتحرك الفرد العربي وهو يحمل قبيلته في أحشائه، ويتصرف كأنه قبيلة، وتتجاوب القبيلة مع أي أزمة يتعرض لها الفرد على أنها مسألة تخص أبناء القبيلة جميعهم . ومن هنا، تصبح هناك ازدواجية في تطبيق القانون، قانون الدولة، وقانون العشيرة، التي ترفض الذوبان في الدولة، وتتمسك بمنطقها وتتحرك وفق حجمها وسيادتها ونفوذها داخل الدولة . وباختصار، فإن الإنسان العربي، مهما تحضّر، يبقى عشائرياً، وهذا يمنع أي ممارسة ديمقراطية، وأي تطبيق للقانون، وبالتالي، يمنع أي ذوبان في الدولة المدنية المبنية على سيادة القانون، ولا أحد أعلى من القانون .

إن التحديات التي تواجهها هذه الدول، تكمن في وجود كيان ديمقراطي داخلها، يتمثل في الكيان الصهيوني، وهو نظام، وإن نادى بيهودية الدولة، إلا أنه نظام ديمقراطي وليس عشائرياً، وrdquo;الإسرائيليrdquo; ينتمي إلى صهيونيته وليس إلى يهوديته . ويقول هذا الكيان إنه محاط بدول متخلفة غير متحضرة، بدول استبدادية قمعية، ويقوم بحملات كثيرة لإثبات تصوره، وهذا ما يؤثر في الرأي العام العالمي، ولاسيّما الغربي، على الصعيدين الرسمي والشعبي، وبالتالي، يهبّون لتوفير الحماية له، ناهيك عن تحقيقه لمصالحهم الكثيرة، التي من بينها، دور الكيان الصهيوني الرئيس في جعل العالم العربي ممزقاً ومتباعداً وغير متصل، إضافة إلى استنزاف موارده من جراء المواجهة، ومحاولته شق الصف العربي (غير المرصوص في الأصل) وإيجاد مشاكل داخلية، وإقامة علاقات دبلوماسية وتطبيعية مع بعض الدول .

بناء على التناقض بين النظامين، النظام العربي والنظام ldquo;الإسرائيليrdquo;، نجد أن العرب، وهم في وضعهم الحالي، غير مستعدين للمواجهة، وكل عمل أو جهد قومي سيكتب له الفشل الذريع، وسيبقى العرب يتعرضون للهزائم تلو الهزائم، طالما بقيت أنظمة الحكم كما هي الآن، لا تعترف بالشورى، ولا الديمقراطية، ولا التعاون الإيجابي المصيري، ولن يحقق الفلسطينيون شيئاً، وهم في وضعهم الحالي، وهم لا يختلفون عن المجتمع العربي من حيث القبلية واللاديمقراطية والمحسوبية والفساد .

إن أي جهد لا يكون جماعياً ولا يستند إلى مجتمعات مدنية تمارس مسؤولياتها، سيكون جهداً في الفراغ، وحتى نحصل على ثمار أي جهد، لا بد من تغيير الكيانات، فلا يفل الحديد إلا الحديد، ولا تفل الديمقراطية إلا ديمقراطية مثلها .