راجح الخوري

فجأة توقف التصفيق الحماسي الذي كان يملأ الفضاء من المحيط الى الخليج تحية للزعيم quot;العربيquot; الأوحد، أو بالأحرى للسلطان الجديد، رجب طيب اردوغان الذي عرف كيف ينسحب مسرحياً في دافوس بعد اشتباك كلامي مع شمعون بيريس، وكيف يرفع صوت الغضب في وجه اسرائيل بعد هجومها الوحشي على quot;اسطول الحريةquot;.
ثمة الآن تساؤلات وحيرة في اوساط الرأي العام العربي (هل هناك ما يسمى رأياً عاماً عربياً؟) بعد الاعلان الاسرائيلي والتركي اول من امس عن اجتماع quot;سريquot; عقد في بروكسيل بين وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو ووزير التجارة الاسرائيلي بنيامين بن اليعارز، وذلك بهدف تحسين العلاقات بين البلدين التي عرفت توتراً بعد الهجوم على quot;اسطول الحريةquot;.
كان مثيراً للريبة والدهشة ان يقرأ العرب في الوقت عينه ما يسرّ قلوبهم، كالاعلان مثلا عن منع المقاتلات الاسرائيلية من التحليق فوق الاجواء التركية، وما يصيبهم بالكمد، كالاعلان عن اجتماع أوغلو وبن اليعازر بهدف اعادة المياه الى مجاريها بين أنقرة وتل أبيب.
زيادة في نسبة هذا الكمد تبيّن ان الاجتماع عقد بطلب من تركيا، التي حسب العرب انها سترغي وتزبد غضباً الى ان تعتذر اسرائيل عن الهجوم الدموي وترفع الحصار الوحشي عن غزة.
لا ندري لماذا السرية في هذا الاجتماع، هل هو الحياء، ام انه ابقاء رباط التعمية على عيون العرب؟ لكن ربما من المفيد ان نتنبه الى ان اللقاء بين الوزيرين تم في وقت كان اردوغان مستغرقاً في توجيه الاتهامات والنقد الى اسرائيل !
وزيادة في الفائدة والتنوّر، فقد أعلن عن اتفاق لمواصلة المحادثات من دون الكشف عن مكان الاجتماع المقبل وزمنه. ولعل ما يثير الدهشة ان اوغلو، الذي وضع اسس استراتيجية العلاقات التركية الجديدة، والمهندس الذي أراد استنساخ الدور المحوري الاقليمي لتركيا في الشرق الاوسط والخليج من تاريخ السلطنة العثمانية، هو الذي ذهب لمفاوضة بن اليعازر بهدف ترميم العلاقات مع اسرائيل، ربما لأن هذا السياسي المحنّك والذي يتميز بالدماثة والدهاء يريد لبلاده ان تأكل باليدين معاً، بمعنى ان الانفتاح الحماسي على العرب وقضاياهم عبر بوابة غزة ومعاناة اهلها يجب في النهاية ان لا يقفل الابواب مع اسرائيل التي ترتبط أنقرة معها في مصالح عسكرية وامنية واستخبارية واقتصادية وتجارية.

❑ ❑ ❑

واذا كانت مأساة غزة قد شكّلت البوابة التركية للعبور الى العالم العربي، فإن في حسابات الزعماء الاتراك ان البوابة الاسرائيلية تبقى رغم كل شيء المعبر الضروري للمحافظة على حرارة التوق التركي الدائم الى الجلوس داخل الاسرة الاوروبية، والى استمرار دورها في المقعد الاطلسي.
إن مجرد حصول الاجتماع في بروكسيل بهدف ترميم العلاقات يشكل دليلاً قوياً على مدى حرص تركيا على اداء دور في رعاية المفاوضات غير المباشرة بين اسرائيل وسوريا، فالوسيط يجب ان يكون مقبولاً من الطرفين.
ثم ان هناك شبكة متداخلة ومعقدة من المصالح العسكرية والامنية لا تقتصر على المناورات البحرية المشتركة مع اميركا واسرائيل، التي تعرف باسم quot;الحورية الواثقةquot;، ولا على عقود تحديث اسرائيل اطقم الدبابات التركية، بل تتعداها الى ما هو اوسع وادق من زاوية عضوية تركيا في حلف الاطلسي.
ومن الناحية الاقتصادية، فإن علاقات انقرة تتركز على المبادلات مع المانيا وبريطانيا وايطاليا وفرنسا وروسيا واسبانيا، بينما مبادلاتها مع الدول العربية تكاد لا تذكر.
ربما تبدو تركيا الآن، بعد سعيها لترميم العلاقات مع اسرائيل، وكأنها تمارس النفاق السياسي، ولكن النفاق في السياسة امر بديهي، والعتب على من يصدق ويتحمس ويغرق في التصفيق !


❑ ❑ ❑

في 20 شباط من العام الماضي، ومع بداية الرقص السياسي التركي على مسارح غزة، نشرت صحيفة quot;هآرتسquot; تصريحات منسوبة الى احد اعضاء المجلس القومي التركي جاء فيها: quot;يجب على اسرائيل إن تدرك المغازي التاريخية للعلاقة بيننا. نحن الاتراك ما زالت لدينا مفاهيم عثمانية تجاه المنطقة (...) إن خيانة العرب التاريخية للامبراطورية العثمانية متجذّرة في وعينا والخصومة الثقافية مع ايران جزء من تربيتنا. واسرائيل واليهود هم حلفاؤنا الطبيعيونquot;!
يصعب طبعاً تصديق هذا الكلام. تماماً كما يصعب فهم الاكتساح الشعبي العربي العارم الذي حققته تركيا منذ استعراضية دافوس حتى الآن. وخصوصاً عندما يتذكر المرء ما ورد في كتب التاريخ العربية عن العثمانيين كقوة احتلال وعسف بطشت بالعرب أربعة قرون !