حمزة بن محمد السالم

الدعوى إلى الحجر على العقول هي دعوى قديمة جديدة نادى بها مصلحون ومفسدون ومقلدون عبر الدهور والأمم. والأصل في الحجر على العقول مذموم، وشاهد ذلك علمياً ما جاء في كتاب ربنا من الدعوة إلى التفكير وإعمال العقل في الأمور كلها. ويشهد على ذلك عملياً انطلاق الغرب في عالم الإبداعات والاختراعات بعدما رفع الحجر على تفكير أبنائه الذي فرضته الكنيسة عندهم في عهودهم المظلمة.

والحجر على العقول - رغم قباحته - قد يكون من باب السياسة ولكن على نطاق مكاني وزماني محدود وفي حالات استثنائية وقتية تفرضها أمور عصيبة يمر بها المجتمع أو الدولة، ومثال ذلك ما نقله جامع الدرر السنية 14- (375-376): lsaquo;rsaquo;يقول العلماء: حسن بن حسين، وسعد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكل آل الشيخ في خطابهم: (... ولا ينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ رحمة الله عليهم، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين؛ فإنه الصراط المستقيم، الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم. وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى، لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه، واستمرت عليه الفتوى منهم. فمن خالف في شيء من ذلك، واتخذ سبيلاً يخالف ما كان معلومًا عندهم، ومفتىً به عندهم، ومستقرة به الفتوى بينهم، فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله)rsaquo;rsaquo;.

هذه الفتوى لو قيلت اليوم لما قبِلها أحد، ولاستهجنتها الأمة قاطبة، ولكنها في وقتها كانت من الاستثناء المقبول في الحجر على العقول المقيد بزمانه ومكانه. ولكن المصيبة عندما يأتي المقلدون اليوم الذين لا يميزون بين الفتوى وبين السياسة ولا يفرقون بين العصور فيسحبون مثل هذا على الخلافات الفقهية اليوم. فتراهم في هذا العصر، عصر المعلومات وانفتاح الفكر، يأتون بأسلوب القرن الماضي فيطالبون بالحجر على من يخالفهم في الفتوى. فهل أفلسوا من الدليل فلم يستطيعوا الرد بالحجة العلمية حتى على فتاوى فاسدة دينياً ودنيوياً كالاستشفاء بالسحرة المشعوذة الأنجاس، أم كبُرت أنفسهم بكثرة الموافقين لهم، فلجأوا إلى التنقيص من المفتي وإلى الإرهاب الفكري بدلاً من الإقناع العلمي الديني والدنيوي ببطلان الفتوى وفسادها، أم هي ثقافة تلقنوها مع ما تلقنوا من الحفظ والتقليد تنظر إلى الناس كأوصياء عليهم يملون عليهم الفتوى المختارة دون إعطائهم الحق في أن يعبدوا ربهم على بصيرة.

والمستقرئ للحوارات والنقاشات في العالم الإسلامي يجد أن الاختلاف بين المتحاورين غالباً ما يستهدف ذات الأشخاص لا أقوالهم، خاصة إذا كانت القضية تدور حول خلاف ديني. والمسكوت عنه في ذلك هو أن هدف كلا المتحاوران في النزاع الديني هو نزع القدسية على مخالفه وإسباغها على نفسه. هذه القدسية التي منحها العامي لرجل الدين من غير حق والتي تعطي رجل الدين القدرة على أن يلوي أعناق النصوص وأن يتخير من الأدلة ما يوافق رأيه وأن يخفي منها ما يخالفه وأن يستشهد حيناً بالسلف وحيناً أخرى بالعقل وأن يعكس المنطق احتياطاً وأن ينكر المفهوم تأولاً، فيسهل عليه بذلك غلب خصمه.