ناجي صادق شراب

عادت المصالحة الفلسطينية الى الدوران حول نفسها من جديد، ووصلت إلى حالة من الانسداد في الأفق السياسي، وعدم القدرة على الحراك الذاتي النابع من المصلحة الوطنية الفلسطينية، ولا يبدو أن في انسداد المصالحة بالأمر الغريب أو المفاجئ، لأن القضية الفلسطينية مرهونة هذه المرة بحسابات إقليمية ودولية، وأن القرار الفلسطيني غير قادر على التحرر من التنافسات الإقليمية والتوازنات الإقليمية والدولية . فالقضية الفلسطينية قضية تنافس إقليمي، وهي البوابة الواسعة لقيام أي دولة بدور إقليمي مؤثر . والخشية أن تتحول القضية الفلسطينية إلى أداة ووسيلة من قبل أصحابها لخدمة الدول الطامحة إلى لعب دور إقليمي، وبدلاً من أن تصبح قضية قومية، تصبح وسيلة تقوم من خلالها الدول بتعظيم قدرتها على التأهل للقيام بهذا الدور الإقليمي . وحيث إن المصالحة تقع في قلب القضية الفلسطينية، وتشكل مكوناً رئيسياً من مكوناتها، تصبح المصالحة ليست شأناً فلسطينياً بقدر ما تصبح شأناً إقليمياً ودولياً .

والإعلان أن المصالحة عادت الى مربعها الأول أو إلى قبل لدليل قوي على صحة فرضية أن القوتين الرئيسيتين (فتح وحماس) غير متعجلتين من أمرهما، فهما بمقاييس الكسب والخسارة، قد يكون الكسب أكبر من الخسارة لكل منهما . فمن ناحية فتح في الضفة الغربية، الأكبر مساحة والأكثر سكاناً، والأكثر مالاً وموارد، وتعمل من دون حماس، والشيء نفسه في غزة، حيث حماس تحكم وتسيطر وتتحكم في كل مصادر القوة من دون فتح، وحيث إن الكل يدرك أن الاحتلال ما زال قائماً، وأن الدولة مازالت بعيدة، فلا ضرر من استمرار الحال على ما هو عليه من انقسام . وفي اللحظة التي قد يشعر فيها الطرفان بحجم الضرر أكبر من المكسب، عندها يمكنهما مراجعة وإعادة تقييم المواقف، فمازال الطرفان حتى الآن يحكمان في ظل مباراة غير صفرية كل في منطقته، وعندما تصبح المباراة صفرية يمكن أن يتم التقدم خطوة نحو المصالحة . ومن ناحية أخرى فإن الإعلان عن أن المصالحة وصلت إلى طريق مسدود تأكيد على صدقية فرضية أن القرار الفلسطيني رهن بالمؤثرات والمنافسات الإقليمية والدولية .

وما زاد الأمر تعقيداً أن القضية الفلسطينية لم تعد تخضع فقط للحسابات العربية العربية، بل باتت تخضع لحسابات التنافس على مستوى القوى الإقليمية المجاورة، وهذا من شأنه أن يعقّد قضية المصالحة، فطالما بقيت المصالحة غائبة على مستوى الدول المحورية والمتنافسة على دور إقليمي أكبر، وبقيت المصالحة الفلسطينية أيضا غائبة . ومن ناحية أخرى، تقف وراء عدم المصالحة فجوة من عدم الثقة، بل يمكن القول فجوة من الكراهية الشخصية بين أفراد النخب السياسية من الجانبين .

ويمكن للمراقب للشأن الفلسطيني أن يعدد الكثير من العوامل التي تقف وراء جمود المصالحة، أو بعبارة أدق عدم الرغبة في المصالحة في الوقت الراهن، وأبسطها وأوجزها أن هناك مصلحة تنظيمية لاستمرار خيار الانقسام السياسي، والتفرد في الحكم والسلطة . لكن للانقسام وفشل المصالحة وجهاً آخر يرتبط بالخيارين الرئيسين لكل من فتح وحماس، خيار المفاوضات، وخيار المقاومة، وبينهما المصالحة ضائعة . والفارق بين المفاوضات والمقاومة فارق زمني مهم، فالمفاوضات لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، ولا بد من ربطها بعامل الزمن، وعامل الزمن هذا محكوم في النهاية بعاملي استمرار محمود عباس في موقع الرئاسة، وأيضاً استمرار إدارة الرئيس أوباما في السلطة، فهنا العامل الزمني قصير، ولا ضرر من عدم الاستعجال في المصالحة حتى نرى ماذا يمكن أن تأتي به هذه المفاوضات . وأما خيار المقاومة فيرتبط بعامل الاحتلال، ولا ضرر من هدنة مؤقتة طويلة، لكن هذا لا يعني التراجع أو التخلي عن خيار المقاومة . وفي هذا الإطار، فإن السلطة الفلسطينية تريد المصالحة مع المفاوضات، وحماس تريد المصالحة مع المقاومة . والسؤال: هل يمكن التوفيق بين الخيارين؟ هذه هي معضلة المصالحة الحقيقية . فبالنسبة للرئاسة والسلطة والحكومة في الضفة الغربية فإن الخيار الرئيس هو خيار المفاوضات والمقاومة الشعبية، والمفاوضات هنا تلعب دور المتغير الرئيس والمصالحة دور المتغير التابع، والشيء نفسه بالنسبة لحركة حماس وحكومتها في غزة فإن خيار المقاومة خيار متغير رئيس، وعند المفاضلة بين المقاومة والمصالحة سيكون الاختيار للمقاومة، وفي كلا الخيارين يبدو أن متغير المصالحة متغير تابع في خياراتهما الرئيسة . ولا شك في أن هذه تمثل قراءة وتفسيراً معكوسين . بمعنى لا المفاوضات، ولا المقاومة يمكن أن تتحقق الأهداف المطلوبة من دون خيار المصالحة . فالمفاوضات من دون مصالحة تبقى خياراً ضعيفاً، والمقاومة أيضاً من دون مصالحة . ستبقى خياراً ضعيفاً، وهو ما يؤكده الواقع الفلسطيني السائد . فالمقاومة غائبة أو مؤجلة، والمفاوضات تائهة بين التعنت ldquo;الإسرائيليrdquo; وعدم القدرة الأمريكية، وبين الضعف الفلسطيني .