رضوان السيد


أثار لديَّ كتاب الدكتور السيد ولد أباه عن quot;أعلام الفكر العربي المعاصرquot; قلقاً عميقاً، عبرتُ عنه بشيء من الحيرة والتردد في عدة مناسبات، ثم جاءت وفاة الدكتور محمد عابد الجابري، والدكتور نصر حامد أبو زيد، لتفجر دواخل ذاك القلق. فقد عرض ولد أباه في كتابه الصغير أفكار ثلاثة وثلاثين مفكراً عربياً، رأى أنهم كانوا الأكثر تأثيراً خلال العقود الستة الماضية، وقد روعتني الحصيلة التي خرج بها المؤلف، ليس بظلمها، بل الأحرى بصدقها.


فالأفكار الرئيسية التي نشرها هؤلاء المفكرون لا تزيد على الست أو السبع أفكار، وهي تتصدى جميعها لتبيان أسباب فشل العرب في الدخول في الحداثة. والعلّة في نظر أكثر هؤلاء تكمن في الموروث العربي والإسلامي، وكيفيات الخروج منه. أما أصول تلك الأفكار أو نموذجها أو الموديل الذي تضعنا في مرآته فهو التجربة الأوروبية في القرون الثلاثة الأخيرة. فقد خرج الأوروبيون من ظُلمات العصور الوسطى الأوروبية بثلاث مقولات: التصدي لسطوة الكنيسة والأفكار الدينية بالقول بفصل الدين عن الدولة (والمجتمع أحياناً)، بحيث حلّت محلها أفكار وممارسات الحرية الفردية، والمجتمع والدولة المدنيتين - والإيمان المنقطع النظير بالعلم التجريبي، بحيث سيطرت النزعتان العقلية والتجريبية في سائر مناحي الحياة - واتخاذ الإغريق (وأحياناً الرومان) نموذجاً ينبغي احتذاؤه سواء في الفكر والحريات أم في تنظيم الدولة والمجتمع. والملاحَظُ أن المفكرين العرب المذكورين في دراسة quot;ولد أباهquot;، أخذوا باستثناء واحد أو اثنين (وعلى تفاوت طبعاً) بهذه المقولات بشكل من الأشكال، وما أزعجهم أو ما أثار اهتمامهم أن أحد رواد الحداثة، أي الشيخ محمد عبده (وربما الحجوي المغربي) ما رأى ضرورة لتصادم الدولة مع الدين، ولا أرى في الإسلام عقبة أمام التقدم العلمي. والطريف أنه في الوقت الذي كان فيه الأستاذ عبدالله العروي ينعى على محمد عبده تقليديته، كانت طلائع الإسلاميين الجدد تأخذ على عبده التغريب والعلمانية ومخامرة الاستعمار والاستعباد! وفي حين تجاهل أكثر هؤلاء المفكرين المُشكل السياسي المستعصي والمستشري، والآخر الاستراتيجي، كان الإسلاميون الصاعدون ينادون بالتصدي لذاك المُشكل بالحل الإسلامي. وبالطبع ما كان الموروث الإسلامي لدى الأصاليين هؤلاء هو مرتكز الحلول التي ارتأوها، لكنه ظل كذلك في الوعي الدافع، وفي أخلاد الجمهور الذين استقطبوا فئات واسعة منه. وهكذا فقد انقسمت النُخب العربية الفكرية والثقافية إلى فئتين: فئة ترى في الغرب المشكلة والعائق، وفئة ترى في الغرب المشكلة والحل!

ما أعنيه بالمُشكل السياسي والآخر الاستراتيجي، الحرب الباردة وتأثيراتها في منطقتنا وفي العالم الإسلامي فيما بين الخمسينيات والتسعينيات من القرن الماضي، والتي ولدت بالتماثل والتضاد أنظمة سياسية في البلدان العربية الرئيسية، استتبعت على طرفي المشهد سائر المثقفين العرب (ذوي الوعي اليساري والإسلامي)، بحيث انصرف كبارُهم (وحتى الذين لم يوالوا نظاماً سياسياً معيناً) إلى استكشاف التخلف وعوائق التقدم لدى الجمهور، أي في الثقافة السائدة، وكانت هناك غفلة واعية أو غير واعية، عن التعطُّل المتزايد لتلك الأنظمة، وسواد الاستبداد والاستعباد بالفعل، واندفاع الجمهور بآليات الممانعة والمقاومة المعروفة بالاتجاه المضاد، وعياً في البداية، ليتحول ذاك الوعي إلى حركات وتنظيمات لاحقاً. وبدلاً من التفات المثقفين الى تلك الآليات، والبحث عن عللها في طبائع الأنظمة السياسية، ظلوا مُصرين على أن العلّة في الجمهور وثقافته وضرورات تحديثها بالطلائع الثورية وأفكارها وممارساتها.

على أن العوامل السياسية والاستراتيجية - شأنها في ذلك شأن الأصول الغربية للفكر - لا تُبرر هُزال المنظومات الفكرية وهشاشتها، وهما السبب الرئيسي لضعف تأثيرها. نعم، لقد تصاعدت دعوات المثقفين إلى الديمقراطية بعد الثمانينيات من القرن الماضي. لكن تلك الدعوات اقترنت بالمقولة الفاقعة عن quot;ثقافة الديمقراطيةquot; والتي لم يَروْها حاضرة في وعي الجمهور وثقافته، وكأنما ذاك هو العنصر الناقص، وليس الأنظمة السائدة. ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد حدوث الافتراق والقطيعة بين الأنظمة والجمهور، دخل المثقفون الحداثيون مع الأنظمة في أيديولوجيا التغيير من طريق quot;التنميةquot;، وللتنمية المقصودة مواصفات غربية تتناقض وثقافة الحاكمين ونُخبهم، لكنهم كما قادوا طلائعية التحرر من الرأسمالية، تحولوا دونما صعوبات تُذكر إلى تحليلات وممارسات إعادة الهيكلة، التي ما تزال جارية دونما نجاح يُذكر، حسبما توقعه المحللون الغربيون أنفسهم!

ولد أباه قال إنه لا يذكر المثقفين العرب بحسب شهرتهم أو ضخامة أفكارهم، بل بحسب تأثيرهم. وقد حاولنا في السطور السابقة إيضاح أسباب ضآلة التأثير، إنما هذا لا يعلل الهشاشة والمحدودية في تلك الأفكار. أما الإسلاميون فقالوا منذ البداية (وكان أفصحهم منذ الثمانينيات المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري) إن الأصول الغربية لأطروحات المفكرين العرب، كما تُعلِّل ضآلة التأثير، تُعلِّل أيضاً هشاشة الأطروحات ومحدوديتها. وبدلاً من الخوض في نقاش بيزنطي عن أولوية البيضة أو الدجاجة، رأيت أن الأجدى فيما نحن بسبيله السؤال عن علاقة الثقافة بالسياسة أو بالسلطة في الغرب وفي ديار العرب.

والمعروف أن هناك علائق منتظمة أو شبه منتظمة في الغرب لتلك العلاقة، وهذه هي مقولة quot;فوكوquot;، التي كتب عنها د. عبدالله ولد أباه أطروحته للدكتوراه، بمعنى أن الثقافة سلطة أيضاً، لدى الجمهور ولدى الحاكمين هناك، لأنهم يأبهون لاعتبارات الجمهور وآرائه وفهمه لمصالحه.

لكن، أليست للفكر أهمية بحد ذاتها؟ هنا يختلف الأمر بين العلوم البحتة والتطبيقية من جهة، والأخرى الاجتماعية والسياسية، فالأولى ليست للجمهور علاقة مباشرة بظهورها، أما الأخرى الاجتماعية والسياسية فتحتاج في انتشارها إلى جمهور أو تبنٍ من جانب نُخب اجتماعية وسياسية مؤثرة. والظاهر أن المفكرين العرب ما أنتجوا الأفكار والمعارف التي يمكن أن تصنع نُخباً أو مدارس فكرية تترك تأثيراتها في المديين المتوسط والطويل. إنما الظاهر أيضاً أن الحاكمين الثوريين إبان الحرب الباردة وبعدها، ما شعروا بالحاجة الى المثقفين العرب، ليس لضآلة تأثيرهم في الجمهور (فهؤلاء لا يحتاجون إليه)، بل ولأن ثقافة مثقفينا ما كانت ضرورية لهم لدعم سلطتهم أو شرعنتها.

والمثقفان العربيان البارزان، واللذان تُوفيا في الشهور الأخيرة، أعني الجابري وأبوزيد، شاهدٌ على ذلك، فالرجلان من أنشط المثقفين العرب في العقود الأخيرة، في مجالي إنتاج الأفكار، والبراعة في الدعوة إليها ونشرها عبر وسائل الإعلام والاتصال. وما حظي الدكتور نصر حامد أبو زيد بجمهور معتبر لأن أفكاره تُصادم سوائد الجمهور، أما الدكتور محمد عابد الجابري، فقد انتشرت أطروحاته (التقسيم الثلاثي لمناهج التفكير العربي الكلاسيكي، وبرهانية الثقافة المغربية وبيانية وخصوصية الثقافة المشرقية)، لكن ماذا سيبقى من المنهج الأدبي والتاريخي لأبوزيد في قراءة القرآن؟ وماذا سيبقى من أطروحتي الجابري بعد عقد أو عقدين؟ الغالب أنه لن يبقى شيء كثير منهما في الوعي الثقافي العام، لكن ربما في تاريخ الفكر، ربما لأن الرجلين ما توصلا لإنشاء مدرسة أو اتجاه ثقافي في تفسير الموروث ووظائفه في الحاضر. ثم لأن الحاكمين ما احتاجوا إليهما بأي شكل!

ماذا يبقى إذن من أفكار كبار مفكرينا وأوساطهم؟ الأفكار قليلة كما قدمنا. والراجح أنه لن يبقى منها شيء معتبر باستثناء بعض الاعتبارات العامة والغائمة. لكننا نملك اليوم لغة وثقافة عربية حديثة مكتوبة ومنطوقة، ولهؤلاء جميعاً فضل في إنتاجها ونشرها، وهذا الأمر ليس بالشيء القليل، لكنه ليس كافياً!