ممدوح الحوشان

ينظر المجتمع نظرة تقدير وإكبار للنخب الثقافية (المشائخية والشورية والوزارية والإعلامية والأكاديمية..) خاصة منهم أصحاب الخبرات والتجارب الطويلة، الذين مارسوا مهام محورية في المجالات الأساسية للدولة.

والمجتمع خلال العقود الأربعة الماضية، ويعود هذا التقدير لما (نتسامع) به من جهود لهذه النخب في مجال دفع مسيرة التنمية، وسعيها المتواصل لحل المشكلات التي تتبع دومًا مسيرة التحديث.

واللافت للنظر أن أفراد هذه النخب في مجملهم من المقلين في الكتابة والتدوين (عبر الكتب والبحوث وليست المقالات والتعليقات) في مجال اختصاصهم بالشكل الذي يُسهم في معالجة قضايا المجتمع أو يوثق مراحل مهمة من تاريخ نموه وتطوره، خصوصًا أننا نعيش في مجتمع ليست لديه ثقافة تدوين منتظمة، ويعتمد على السرد اللفظي، ويفضل المسامرة والمنادمة والمناقشة، ويستصعب إمساك القلم ومراجعة الكتب وتدوين التجربة، حتى بعد أن محونا الأمية ووصلنا لدرجات متقدمة من التعليم العالي، إذ ما زلنا للأسف نعيش حالة من الحيرة في تصور مشكلات المجتمع السعودي المعاصر.

وكم خسر الوطن برحيل عشرات الرجال الأوفياء من أبنائه، الذين أسهموا في شتّى المجالات المعرفية، وقدموا إسهامات كبيرة للوطن والمجتمع والدولة، ورحلوا أو مرضوا دون أن يدوّنوا ما يلائم مكانتهم ويحفظ تجاربهم ويحمي علومهم من الاندثار أو الضياع، (وعلى سبيل المثال: التجربة الفريدة للمملكة في تعليم البنات لم تدوّن أو تؤرخ بأيدي من أسموها من المشائخ رحمهم الله).

وفي تقديري أن هذا العزوف عن التدوين له أسبابٌ جوهريةٌ، يأتي في مقدمتها انشغال (النخب الثقافية) بممارسة الواجبات العلمية، والوقوع تحت تأثير القرب من دوائر السلطة أو الجماهير، وبالتالي الانهماك الشديد في التصدي للقضايا الآنية والمشكلات الملحّة، وبذل الوسع في مساندة الدولة والمجتمع على التصدي لها، كل بحسب موقعه واختصاصه.

ومن الأسباب أيضًا تمسك (النخب الثقافية) ببعض القناعات الفكرية (المشوشة) التي تحتاج في نظري للمحاورة والتمحيص لتحديد الصحيح والواقعي واطراح الوهمي والظني، والسعي لتذليل ما يمكن تذليله، ومنها على سبيل المثال (الهاجس الأمني والحرج الاجتماعي + التذرع بأسبقية وأفضلية كتب الأوائل + انصراف الجيل الحالي عن القراءة ومحدودية تأثير الكتاب + المبالغة في التحوط المبدئي على أسرار العمل الحكومي +.. إلى غير ذلك من العوائق الذهنية التي يمكن تلافي سلبياتها ومحاذيرها بمجرد وضع خطة منهجية لمشروع الكتابة والتدوين).

ولعل من الأسباب الجوهرية أيضًا تباطؤ خطوات الحراك الثقافي في الداخل السعودي، وضعف المؤسسات القادرة على احتواء أصحاب التيارات الفكرية على اختلاف أطيافها، مما أدى بالضرورة إلى انحصار مجالات التأليف المدعومة ماليًا والمجازة رقابيًا والمخدومة إعلاميًا والمرضي عنها اجتماعيًا ورسميًا ضمن أطر ومجالات مكررة من حيث المعلومة والرؤية وطريقة المعالجة.

ولا شك في أن محدودية التكوين العلمي لبعض (النخب الثقافية) المؤثرة في تشكيل الرأي العام تسبب في افتقادهم للوعي الكافي بأهمية وآلية وفوائد وإيجابيات العمل البحثي، وقلل من عنايتهم به كأولوية في جدول أعمالهم وأضعف حماسهم لتحمل تبعاته قبل وأثناء وبعد إنجازه وكتابته.

إن شح المعلومات والدراسات المنهجية معاناة يعاني منها كل باحث ودارس للتاريخ السعودي المعاصر، إذ إن الإحصاءات المتداولة الأولية (عن السكان والمواصلات والصحة والتعليم) يصعب قراءتها (لغير النخب الثقافية) بمعزل عن سياقها التاريخي وتأثرها بالحالة الاجتماعية وتماهيها مع المتغيرات الحضارية التي وُلدت في زمانها، ولذلك أرى أن تأمل الظواهر الاجتماعية (لمنطقة مكانية في فترة محددة)، وتحديد مستويات الوعي السياسي والثقافي، ورصد حالات التدين ومجالاته ودرجاته (من زاوية كل نخبة ثقافية وبحسب اختصاصها وأدواتها) تُعدُّ من أهم المجالات التي يجب أن تتجه لها الجهود البحثية في المرحلة الحالية.

إنني أرى لضعف العناية بالتدوين والتوثيق من قبل (النخب الثقافية) آثاره السلبية المتعددة على الدولة والمجتمع، إذ تستمر أوجه الخلل ومكامن القصور في (التصورات أو الممارسات) وتتراكم المشكلات المعرفية والمهنية، وتنحصر الإجراءات التصحيحية بسبب افتقادنا للمعلومات والرؤى والخبرات العريضة للشخصيات المحجمة عن الكتابة والتدوين، (فشخصية مثل سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق -حفظه الله- لو أخرجت رؤاها وعصارة تجربتها القضائية سيكون لها نفع عميم لكافة المهتمين بالشأن العدلي والقضائي).

كما أن تقصير النخب في أداء واجبها في التدوين تسبب في تشكل صورة ذهنية مشوشة وغير متكاملة عن المجتمع السعودي في الأوساط الثقافية والأكاديمية (عربيًا وعالميًا)، حيث تضعه بعضها في إطار المجتمع المتخلف المنغلق المتطرف، بسبب أن ما بين أيديها من منجزه الثقافي لا يتوافر على أبسط مستلزمات العمل الثقافي الجاد، فكثير من الإصدارات السعودية التي نالت حظًا كبيرًا من الدعم والتوزيع ولكنها لم تنل حظًا من إشراف ورعاية (النخب الثقافية) كانت ضعيفة المحتوى، مؤدلجة الغايات، مفتقدة للجرأة والعمق، ومعبرة عن بعض فئات المجتمع دون فئاته الأخرى.

ولو أن (النخب الثقافية) بادرت بأداء واجبها في التدوين والكتابة، كما هو حال (نظرائها) في دول العالم المتقدمة لما راجت بضاعة ومزاعم وأقاويل المغرضين والمشبوهين من أبناء الوطن المنشقين عنه أو المناهضين لولاته، إذ إن وفرة الكتابات الجريئة (المسؤولة) من الشخصيات القريبة من صنع الحدث (رؤساء التحرير على سبيل المثال) ستكون أحد أهم الأدوات المؤثرة في تشكيل الوعي لدى المتلقين في الداخل والخارج، بشرط خروجها من الأسلوب الرسمي المباشر، واعتمادها على المعلومة الصحيحة والتحليل الموضوعي وممارستها لقدر من الانتقاد العقلاني. كما أننا مطالبون بالإفادة من التجارب الناجحة للمراكز البحثية في مجال دعم التدوين والنشر، ومن أمثلة النجاح دارة الملك عبد العزيز التي نجحت نجاحًا باهرًا في تحقيق تطلعات الدولة والمجتمع منها، إذ أسهمت في حفظ وأرشفة التاريخ السعودي المعاصر شفويًا وكتابيًا، وأشرفت على تنظيم المؤتمرات والمعارض عن ملوك الدولة السعودية المعاصرة، وفسحت المجال أمام الباحثين للكتابة والنشر حيال محطات جوهرية وحاسمة ومفصلية من تاريخ البلاد المعاصر. وحبذا لو اختطت الجهات الدبلوماسية والإعلامية والقضائية والبرلمانية.. الخ نفس الخط والمسار بتبنيها لمشروعات بحثية وتوثيقية للشخصيات المهمة والمحورية التي لها إسهام فكري أو تنظيمي في مراحل مهمة من تاريخ هذه المؤسسات.

ومن واجب كافة قيادات المجتمع ومؤسساته الإشادة والإبراز لكافة الجهود والمبادرات الداعمة لحركة النشر والتدوين، مع العمل على نقدها وتقييمها رغبة في تحسن مستوى الجودة كمًا وكيفًا، ومن الأمثلة القريبة هنا: (كراسي البحث العلمي + مشروعات مكتبة الملك عبد العزيز لتوسيع الكتابة ونشر ثقافة القراءة + إصدارات الأندية الأدبية بقياداتها الجديدة + جهود جمعية الناشرين السعوديين... إلخ).

وختامًا أقول.. لن تروّج حركة التدوين والمعالجة الموضوعية المنشودة من قبل (النخب الثقافية) إلا في مجتمع يمارس التعددية والحرية (النسبية) وفق الثوابت والأسس الوطنية والدينية المتفق عليها بين عقلاء المجتمع ومفكريه وقادة الرأي فيه، والذين يشكلون بمجموعهم النخب الثقافية المساهمة في صنع التحولات الكبرى، التي لديها من سلامة الفكر وحسن المقصد ونصاعة المواقف في الأزمات الوطنية الكبرى ما يشفع لها لدى المتلقي إن اجتهدت وأخطأت!.