علي حرب


ما هي حقيقة الدولة الدينية التي طرحها الإسلاميون المحدثون والأصوليون المعاصرون، من خلال مصطلح laquo;الحاكمية الإلهيةraquo; أو laquo;ولاية الفقيهraquo;؟

هذه الأطروحة، شأنها شأن المماهاة مع الأصول، تتأسس على وهم أو جهل، بقدر ما تقوم على طمس مجريات التاريخ الإسلامي ووقائع الاجتماع السياسي، ذلك أن الدولة، خاصةً بعد انتهاء عصر الراشدين الذين جمعوا بين السلطتين الرمزية والسياسية، ما كانت يوماً دينية.

ولا يمكن أن تكون كذلك، إذ هي بطبيعتها دنيوية، دهرية، سياسية، مرماها ممارسة السلطة وإدارة المصالح أو تدبر المصائر على هذه الأرض. فالحياة هنا هي الغاية، أما في الدين فالحياة، ها هنا، هي مجرد وسيلة أو تجربة أو محنة، هدفها النجاة للوصول إلى الحياة الآخرة.

قد تستند الدولة إلى شريعة دينية أو قيَم خلقية أو مبادئ فلسفية يستلهمها السياسي في عمله، لكي يحسن إدارة الشؤون والمصالح العمومية. وهذا شأن الدول، القديمة أو الحديثة، في ما تطرحه من عناوين وشعارات متعالية؛ كالمساواة، أو العدالة، أو التكافل، أو التقدم، أو الحرية، أو الاشتراكية... ولكن ذلك لا يغيّر من طبيعتها الدنيوية، أي كونها ممارسة بشرية، تخضع لما تخضع له أعمال البشر من النقصان أو الخطأ أو النفاد.

هذا ما فعله الذين تعاقبوا على السلطة من خلفاء وأمراء وسلاطين، لم يدّعوا العصمة أو القداسة، ولم يقدموا أنفسهم بوصفهم الأعلم والأفضل. بل هذا ما فعله الخلفاء الراشدون أنفسهم، كما هو معروف.

من هنا كان قول الخليفة الأول عندما تسلم مقاليد السلطة: وليّت عليكم ولست بأفضلكم، فمن رأى في اعوجاجاً فليقومه بحدّ السيف. هذا واقع يتناساه دعاة الحاكمية الإلهية؛ على هذه الأرض لا وجود إلا لحكم البشر.

ولو باسم شريعة دينية. لأنه، سواء تعلق الأمر بفهم النصوص أو بتطبيق الأحكام، فما يقوله أو يحكم به الفقيه أو رجل الدولة، إنما هو في نهاية المطاف اجتهاده وتقديره.

ولا يرقى إلى مرتبة اليقين المطلق. بهذا المعنى، جرى نوع من الفصل بين السلطتين السياسية والدينية، بقي سارياً طوال التاريخ الإسلامي، سواء لدى السنّة أو لدى الشيعة.

بحيث يمارس الحكام السلطة، فيما يهتم العلماء بالتشريع والمراقبة والنصح. وهذا الفصل في المجالات والصلاحيات بين الحكّام والعلماء، يؤمن نوعاً من التوازن بين السلطات المادية والرمزية، وهو ما يحاول دعاة الدولة الدينية إلغاءه.

والحصيلة ممارسة استبداد مضاعف، لأن السلطة هي أصلاً ضربٌ من الاستبداد بالأمر، ولو كانت شرعية. فإذا تمّ الجمع بين السلطتين السياسية والدينية، ألغي إمكان مساءلة السلطة ومناقشتها أو نقدها، وصار الاستبداد مطلقاً، كما هي حال الدولة الأوتوقراطية.

حيث الحاكم ممثل الله على الأرض أو نائبه أو ظله، وكما هي حال الدولة الشمولية، حيث الزعيم الأوحد يمارس سلطة مطلقة، وفي كلا الحالين يتحول رجل الدولة إلى حاكم بأمره يتصرف في ملكه كما يشاء.

بهذا يحاول دعاة الحاكمية القضاء على مساحة من الحرية، كانت تتيحها الدولة في المجتمعات الإسلامية، لكي يمارسوا السلطة بما يشبه محاكم التفتيش في العصور الوسطى. والشاهد على ذلك أن الإسلاميين في الصومال سموا دولتهم laquo;المحاكمraquo;، والمحكمة هي أحد أنشطة الدولة. أما أن تسمى الدولة محكمة، فهذا يعني أن هدف أصحابها من الحكم هو ممارسة الانتقام والإرهاب.

يضاف إلى ذلك مأزق تواجهه الدولة الدينية التي تستند إلى منطق الشريعة والفتوى، أو التي تسبغ صفات القداسة والضرورة المطلقة على أعمالها وقراراتها، إذ على أي مذهب سوف تحكم في البلدان التي يوجد فيها تعدد طائفي أو تنوع مذهبي؟

ومن المعلوم أنه، بعد الانشقاق التاريخي الذي حصل بين المسلمين، انقطعت أواصر التواصل بينهم، وعاشت كل طائفة في عالمها الخاص بما يشبه الغيتوات المنعزلة. وهم إذ انفتحوا على بعضهم، فبسبب فضاءات الحداثة ومؤسساتها، كالمدرسة والشركة والسوق والمنتدى والحزب والثكنة، وسواها من المؤسسات التربوية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية..

ولما عاد كل فريق إلى فقهه وشرائعه لإدارة المصالح العمومية والحياة المشتركة، جرى تلغيم المجتمعات وتقويض أسس الدولة والأوطان، كما جرى تلغيم العلاقات بين المسلمين وسواهم؛ بل إن هذا الداء قد سرى إلى داخل الطائفة الواحدة، إذ انفجر الخلاف بين أحزابها وطوائفها، فلكلٍ اجتهاده الذي يتعامل معه بوصفه المعلوم من الدين بالضرورة، أي بوصفه حقيقة مطلقة لا تقبل الجدل.

وهذا ما يجعل الدولة الدينية مستحيلة في مجتمع طائفي، وتلك هي حصيلة منطق الفتوى المقدسة التي استحالت فتاوى بائسة أو مضحكة أو مرعبة. من هنا فإن المقارنة، في هذا الخصوص، بين المسيحية والإسلام، غير دقيقة، كما أشار إلى ذلك الأستاذ خالد الحمود في تعليقه على ما يقال حول الدولة المدنية والعلمانية الإيجابية، إذ هو لم يقع في فخّ التبسيط أو التمويه للمشكلة.

والمقارنة ليست في محلها، بل هي خادعة، ليس لأن ظروف ولادة نظام علماني إيجابي لم تنضج بعد، بل بسبب المنطق الذي تقوم عليه الدولة الدينية. وإذا كانت الكنيسة في أوروبا، والعالم الغربي عامةً، قد وافقت على النظام العلماني، وعاشت في كنف الدولة المدنية.

فلأنها هزمت وانكسرت شوكتها، الأمر الذي أدى إلى تراجعها، والى قيامها بمراجعة حساباتها وتطوير أو تحديث فكرها ومؤسساتها، بتشكيل قناعات جديدة أتاحت لها أن تقيم في العصر الحديث أو تسهم في بنائه.

في العالم الإسلامي تراجع رجال الدين مع موجات التحديث الفكري، ولكنهم لم يتراجعوا عن قناعاتهم، ولما فشلت المشاريع القومية، والبرامج الاشتراكية التي ولدت أصلاً ميتة، عاد الإسلاميون الأصوليون وبرزوا على المسرح، ولا أقول بأنهم رجعوا بالعقلية القديمة، التقليدية أو السلفية أو الإصلاحية، بل عادوا بعقلية متحجرة لفرض نماذج بائدة، وذلك باختراع صور ونماذج وماركات إسلامية، وبالأخص الماركة الإرهابية الانتحارية.

في الخلاصة، لا مجال لقيام دولة مدنية، ما لم تتغيّر القناعات وتنكسر العقليات الأحادية أو الشمولية، بحيث لا تدار الأمور بمنطق إيماني قدسي، ولا بمنطق عقائدي أيديولوجي، أياً كان الشعار، وإنما تساس، بمنطق المداولة والإدارة العقلانية والقانون الوضعي والشراكة البنّاءة.

فالقدامى قد غيروا وبدلوا بقدر ما أبدعوا وابتكروا، وهذا ما ينتظر من أتباعهم المعاصرين: أن يبتكروا ويغيّروا، لا على الوجه السلبي، بل على الوجه الإيجابي والبناء.. وإلا عبثاً نبحث عن حلول للمشكلا