وليد نويهض

شُيِّعَ أمس الأول رئيس مجلس النواب اللبناني السابق كامل أحمد الأسعد إلى مثواه الأخير في مقام السيدة زينب في دمشق. وبهذا تنتهي رحلة حقبة سياسية من تاريخ لبنان الحديث تمثلت في صعود وهبوط عائلات ارستقراطية الطوائف في بلاد الأرز.

بين بلدة الطيبة (مسقط رأس الأسعد) في الجنوب ومقام السيدة زينب في دمشق مسافة جغرافية قصيرة تفصل بين بلدين. والمسافة على صغر حجمها الجغرافي تختصر مجموعة تحولات تاريخية طرأت على مسرح المشرق العربي أدت إلى إعادة تشكيله السياسي خلال محطات زمنية تميزت بالتوتر وعدم الاستقرار بسبب تقسيم المنطقة إلى دويلات وما أعقبها من نكبات (فلسطين) وانقلابات عسكرية في سورية.

المساحة الجغرافية صغيرة ولكن تفاعلاتها الزمنية كانت عنيفة بسبب ما ترتبت عنه التقسيمات والنكبات والانقلابات من تداعيات ارتدت على الداخل اللبناني وأدت إلى بعثرة أوراقه الأهلية وخلطها في تحالفات طائفية ومذهبية ساهمت في تكوين هوية قلقة تتجاذبها تيارات سياسية (ايديولوجية) غير متوافقة على تعريف الصفة القومية للكيان.

آنذاك كانت الاستقطابات مختلطة بين قومية عربية بوصفها البديل التاريخي عن غياب السلطنة العثمانية (الهوية أو الجامعة الإسلامية) وبين قومية سورية (وحدة بلاد الشام) أو وحدة الهلال الخصيب الذي يجمع سورية والعراق (سوراقيا) وبين قومية لبنانية (الفينيقية) الناشئة من تحت أنقاض الانهيار الذي عصف بطوائف المشرق العربي.

الانقسامات السياسية على تعريف هوية لبنان القومية في أربعينات القرن العشرين لم تقتصر على الايديولوجيا الحزبية وإنما انجرفت ميدانياً لتأخذ طابعها الطائفي. السنّة بقيادة حزب النجادة أكدت عروبة لبنان بوصفه جزءاً من الوحدة القومية الكبرى من المحيط إلى الخليج. الأرثوذكس والأقليات المسيحية والمسلمة بقيادة الحزب السوري القومي أكدت الهوية السورية (الهلال الخصيب) ورفضت العروبة الانفلاشية والانعزالية اللبنانية. الموارنة ومعها الأطياف المسيحية اعتبرت ان لبنان يعرف بذاته فهو لبناني وليس سورياً أو عربياً لأنه جغرافياً وتاريخياً يتميز بخصوصية يجب المحافظة عليها في إطار المشرق العربي.

الاختلاف على تعريف هوية لبنان أدى إلى تشكيل تحالفات تأسست على انقسامات طائفية لعبت دورها لاحقاً في التوافق على اعتماد نظام محاصصة يضمن حقوق الأطياف الأهلية من دون تفرقة أو تمييز. ولكن النظام حتى يستقر استخرج مجموعة مصطلحات توفيقية تلبي تطلعات الطوائف ولا تستفزها فظهرت في الميثاق الوطني مفردات تعكس المخاوف مثل laquo;لبنان ذو وجه عربيraquo; أو laquo;لبنان ليس مستقراً أو معبراً للاستعمارraquo;.

النصوص الوطنية كانت توفيقية في مضمونها الطائفي لكونها شكلت ذلك الجامع الذي يربط لبنان بالعروبة ويطمئن سورية أن بلاد الأرز لن تشكل المعبر أو الموطن للاستعمار وما يمكن أن يشكله من مخاطر على أمنها القومي أو الحدودي.

التوافق على النصوص في مطلع الاستقلال ساهم في تدوير الخلافات ولكنه لم ينجح في احتواء الأزمة وما تنتجه من تجاذبات سياسية تحيط به من فلسطين إلى سورية. وبسبب الجغرافيا تعرض لبنان منذ أربعينات القرن الماضي إلى عواصف إقليمية ساخنة وباردة أدت مراراً إلى دفعه إلى معارك داخلية اتسمت أحياناً بالحدة والعنف.

بدأت الرياح في طورها الأول من فلسطين وقيام دولة laquo;إسرائيلraquo;. فهذا الأمر أدى إلى نزوح ربع مليون وتشريدهم في مخيمات توزعت على المدن والمناطق اللبنانية ما ساهم لاحقاً في توتير التجاذبات الأهلية بين مخاوف التوطين وحق العودة.

بعد النكبة أخذت عواصف الانقلابات العسكرية في سورية تؤثر على الاستقرار اللبناني وتعرضه إلى تدخلات إقليمية بسبب هروب ضباط ورساميل خوفاً من المصادرة السياسية في دمشق.

المتغيرات السياسية في جغرافيا لبنان ومحيطه ساهمت في توليد وقائع ميدانية على الأرض منها أعطت نتائج اقتصادية إيجابية بسبب هروب الرساميل ومقاطعة مرفأ حيفا وتحول التجارة العربية (الترانزيت) إلى بيروت التي ازدهرت مالياً بوصفها البديل الجغرافي لفلسطين. إلى الإيجابيات برزت سلبيات أبرزها انهيار الصناعات الحرفية والمهنية والتقليدية في الجنوب بسبب اعتماد أهالي قرى الحدود على السوق الفلسطينية. وتضخمت السلبيات حين أخذت الخلافات اللبنانية - السورية تتطور سياسياً لتنعكس على معابر الحدود بعد أن أخذت الحواجز الجمركية تؤثر على الحركة التجارية وحرية المرور.

المصادفة الجغرافية لعبت دورها أيضاً في تأزيم الوضع الأهلي الداخلي في لبنان. فالمناطق الحدودية في الجنوب (فلسطين) أو البقاع (سورية) تتركز فيها غالبية شيعية ما انعكس تدهوراً على المستوى المعيشي للعائلات ودفعها إلى البحث عن موارد رزق تعوض تلك الخسائر اليومية الناتجة عن إقفال السوق الفلسطينية وتهديدات laquo;إسرائيلraquo; الأمنية لسكان القرى الأمامية أو بسبب التوتر السياسي الذي كان يعصف بالعلاقات التجارية - الجمركية بين دمشق وبيروت بعد كل انقلاب عسكري تشهده سورية.

آنذاك كانت العائلات الشيعية مستقرة وآمنة على أطراف الجمهورية اللبنانية الناشئة حديثاً، ولكن التطورات العاصفة التي أدت إلى إعادة تشكيل خريطة المشرق العربي دفعت أهالي القرى للنزوح إلى المركز بحثاً عن عمل أو السفر إلى الخارج لتأمين الرزق.